الليرة التي كأفأتني بها جدتي!

عبد الحميد خلف الإبراهيم

كنت في الصّفّ الثّالث أو الرّابع عام 1966 أو 1967 عندما ذهبت من قريتنا الشّمالية (حمّام التّركمان) إلى قريتنا الجنوبيّة، أرسلني أبي لشأن ما إلى جدّتي عدلة الحسّان، رحمهما الله، وجمعنا بهما في جنّات النّعيم.
قبّلتني جدّتي قبلتين، وضمتني إلى صدرها، ثمّ أعطتني من جيب صايتها صورة لرّجل اسمه دياب عبد الله فارس.
لم يكن الرّجل صاحب الصّورة من ذويها البوعسّاف، ولا من ذوي أبنائها التّركمان، إنّه من حرستا في ريف دمشق!
وكي لا يطول تساؤلكم عن الرّجل الذي كانت جدّتي تخفي صورته في جيب صايتها، سأخبركم أنّ صورة المذكور أعلاه كانت على اللّيرة الورقيّة السّوريّة، وجدّتي كافأتني بما أرسله لها أبي، فأعطتني ليرة سوريّة كاملة.
وكانت اللّيرة السّوريّة تحمل صورة الرّجل تقديراً له، إذ كان بطل الإنتاج السّوريّ يوماً ما في معمل الزجاج في منطقة القدم بدمشق، فحملت الليرة صورته إلى أن توفّاها الله بمرض عضال، استنزف شبابها وقوّتها، فدُفنت، وصلّى عليها السّوريّون صلاة الغائب في مهاجرهم.
ولد دياب عبدالله فارس عام 1933، وظلّ نشيطاً، يزاول عمله في معمله، حتّى تقاعد عام 1980، ثمّ إنّه توفّي، رحمه الله، عام 2005.
ومن حكاياته أنّ شرطيّاً أستوقفه وطلب منه هويّته، ولم يكن يحملها، فأخرج له ليرة سوريّة، وقال له: هذه هُويّتي!
لم تصل اللّيرة التي كافأتني بها جدّتي إلى بيتنا، فقد وجدت قبل وصولي إلى بيتنا مصوَراً من أجدادنا الأرمن قادماُ من تل أبيض، كان قابعاً في ظلّ بيت العبود العلي، الذي آل لخضر الدّهش، رحمهما الله.
أقنعني صاحب (مصورة الميّ)، أن يلتقط لي صورة ثمّ يضع لها إطاراً جميلاً، ولم يكن الإطار إلّا مدخل جامعة دمشق، تفاؤلاً بأن أكون من طلّابها، ولم يتحقّق ذلك، فإنّي درست عندما بلغت سنّ الدّراسة الجامعيّة في جامعة حلب.
ذكّرني بالليرة وبالصّورة أنّ (قلّة عقلٍ) أصابتني، لعلّها من علامات الكبر، فغيّرت صورتي في صفحة الفيسبوك ثلاث مرّات منذ بداية هذا العام 2024.
وكنت ألجأ إلى منع التّعليق على الصّورة الشّخصيّة، كي لا يتعب أحبابي بالتّعليق على شأن خاصٍّ، لا يستحقّ التّعليق.
وكانت إحداهنّ جاملتني في رسالة على الخاصّ، قالت لي: صورتك جميلة!
ثمّ غيّرتُ الصّورة، فحادثتني إحداهنّ قائلة: صورتك بشعة!
ثمّ إنّي وجدت برنامجاً يزين الصّور، غير البرنامج الذي رسم لي البعير اللّبناني الرّاقص، برنامجاً يغريك بصناعة بروفايل لمحبّي صورهم، فرأيت أن أخرج من الصّورة التي قيل لي: إنّها بشعة!
**
اعتقل عمي محمد الخلف الإبراهيم، ولم يحدثني عن التعذيب الذي سبق أن تعرض له في السجن، لكنّ الذين اعتقلوا معه حدّثوني بالعجائب، عجبت لمن يمرّ بمثل ما مرّوا به، كيف يخرجُ بعد سنوات بتمام عقلِه وقلبِه وجسمِه.
كانت تُهْمَتُه الانتماء لحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ بطبعته العراقيّة، ولم يُنكر التّهمة أبداً.
واحدةٌ من الزَّنازين التي مرّ بها كانت مغلقة بالشّنيمون عدّة أشهر، يُرمى له فيها شيء من الخبز من فراغ تحت الباب، ويومَ خرج من السّجن الأخير خرجَ برُبْعِ قلب، وأضيفَتْ لقلبه بطارية مُنشّطة بعد خروجه من السّجن، عاش بها سنوات حتى أسلمَ الرّوح، في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2012، نازحاً في مزرعته قريباً من أقاربنا العبيدة في العطشانة، بعيداً عن قذائف الجيش العربيّ السّوريّ على حمّام التّركمان، إثر وصول الجيش (الحرّ) إلى المنطقة لتحريرها من أهليها في الخراب المسمّى (الثورة المجيدة).
قال لي: كنت أعيش في السّجن حياة البرزخ بين الدّنيا والآخرة، أنتظر الإعدامَ في أيّ لحظة، وفي حياة البرزخ هذه كانت الذّكريات تتوارد متعاقبةً على خاطري!
تذكّرت أنّنا، ذات يوم، خرجنا بالسّيارة في الرّبيع، عُقْبَ واحد من العيدين، نعيد زوجة عمِّنا (علي الأحمد العبيد) التي كانت تقضي العيد عند أهلها في شرق سلوك.
كنّا اشترينا سيارة البكر الأمريكيّة للمختار، ولم تبق عندنا غير عام أو أكثر، لأنّنا لم نستطع تسديد أقساطها.
اخترنا أن نعود لدى عودتِنا في الطُّرُق الشّرقيّة التي تتسلّل بين الزّروع، على الحدود بين عنزة والتّركمان، من سلوك إلى الإصيلم، فصادَفْنا غزالةً راحتْ تُسابق السّيّارة بشكلٍ لافتٍ غريبٍ، فإذا أسرعْنا أسرعَتْ، وإذا تمهّلنا تمهّلَتْ، تلتقِطُ أنفاسَها، ولم نكن نحملُ معنا بندقيّة لاصطيادها، وعندما صِرنا بمحاذاة حمّام التّركمان، توقّعنا أن تنتهي رحلتُها معنا، فتتابعَ سيرها إلى الجنوب، في الوقت الذي سننحرف نحن إلى الغرب باتّجاه أهلنا، لكنها انحرفت قبلَنا، في الطريق الفرعيّ إلى القرية، وانحرفنا وراءَها!
ثمّ آثرنا أن نتوقّف، نتمَشّى بين الزّروع قليلاً، وتفرقْنا عن السّيارة، فما كان من الغزالة التي كنّا نطاردها، أو كانت تلاعبُنا، إلا أن اقتربَت من السّيّارة فضوت عندها، فغافلها (خلف الدّوّان) الذي كان بصُحْبَتِنا، فضَرَبها بحَجَرةٍ على راسها، ولحق بها فذبحها بالخنجر الذي يحمله، وحملناها معنا وليمةً لذلك اليوم.
في الزّنْزانة التي عشْتُ فيها حياةَ البرزخ، وأنا أتوقّع الإعدام في أيّة لحظة، وفي لحظة من لحظات صفاء الذّهن، رحتُ أتذكّر ما مرّ بي في حياتي من أحداث، تذكّرت أموراً كثيرة لم أتصوّرْ أن تعودَ إلى ذاكرتي، كان من بينها غزالةَ كانت في بيتنا، أهداها أحد أصدقائنا لأبيك، عاشت معنا في البيت عدّة أشهر، كانت تدخل الصّالون، صالون البداغ الطّيني، وتضوي بيننا، ونطعمها الحشائش بأيدينا، ألفتْنا وألِفْناها، ثمّ فقدناها يوماَ، فقلنا: لعلّ الكلاب طاردتها، وهي ترعى في الزّرع المجاور، فذهبت في البرّ ولم تعد، ولم نعرف مصيرها.
تذكرتها في السّجن، وعرفت نهايتها غير السّعيدة بعد أربعين سنة، عرفت مصيرها المحزن، إنها نفسها الغزالة التي لاعبتنا في الطريق، فقتلناها!
كانت تعرف السّيارة وتُسابقُها، لم تَنْسَ أنها كانت تستظلُّ بها، يوم كانت عندنا في البيت، وعندما توقفنا في الزّرعِ، أسرعَتْ إليها، فاستظلّت بها كما كانت تفعل من قبل، كأنّها كانت تستعيد ذكرياتها!
ذبحناها.. دون أن ندري أنّها غزالتُنا!
وأصابني النّدم! ولات ساعة مندم!
شاعر وكاتب سوري مقيم في الدوحة