من دهاليز القضاء

عندما ينتصر الحق على الباطل

فواز عويد خليل

كنت وكيلاً ﻷحدهم أمام محكمة الاستئناف المدنية في مدينة الرّقة السورية .. بدعوى طلب التعويض عن العمل غير المشروع، وخلال مجريات التقاضي أمام الاستئناف تمت المصالحة الرضائية بين الموكل وخصمه لقاء مبلغ مالي يدفعه الخصم للموكل..  فطلب الموكل إسقاط حقه بالدعوى، وإعطائه صورة عن هذا الإسقاط ليسلّمه بدوره للخصم، وعلى أثر ذلك يستلم ما تبقى له من مبلغ متفق عليه.

طلبت من موكلي الحضور إلى المحكمة، وبعد أن كتبت له الإسقاط باسمه والتوقيع عليه من قبله، أدخلته إلى ديوان المحكمة لإقراره وتوقيعه من رئيس المحكمة، وبالتالي إعادته إليه ليسلّمه إلى خصمه بعد أن يستلم منه المبلغ المتفق عليه، ولكني فوجئت بالموكل عاد إليّ وقال:

 إن رئيس المحكمة احتفظ بالإسقاط في إضبارة الدعوى، ولم يَعدْهُ له، ولذا أسرعت لمراجعة رئيس المحكمة لاسترجاع الإسقاط وتذكيره بأنني لم أطلبْ ضَمَّه إلى ملف الدعوى، ولم أبرزْه في جلسة علنيّة لكي يضمّه إلى الإضبارة. وجدت رئيس المحكمة جالساً في غرفة المحامي العام حينذاك محمد زكريا رفاعي – رحمه الله – و كان موجوداً في الغرفة القاضي الشرعي حسين الويّو، وما أن طلبت الإسقاط من رئيس المحكمة، حتى فاجأني بسخرية مقيتة (شكون تقول يا أستاذ؟ هاذي نُصْ “حجاية” حكاية .. إذا كنت مختلفاً مع موكلك على أتعابك، وجاي تأخذ إسقاط الحق.. و تبتزّ موكلك به هاي بعيدة عنك .. لا تحلم بيها).

فأجبته ببرود وهدوء تامين .. توجد نقابة محامين لحلّ الخلاف بين المحامي وموكله في حال حدث ذلك، وهذا ليس من شأنك و لا من اختصاصك.. وما دمتُ وكيلاً عن موكلي ولم أطلبْ ضَمَّ الإسقاط إلى إضبارة الدعوى، ولم أبرزْه في جلسة علنية سيظلُّ الإسقاط من حقي و حق موكلي، ولذا أنا متمسك في إعادته إليَّ، و مع ذلك أنا مستعدٌّ لإحضار موكلي أمامك الآن لتسليمه الإسقاط ولتتأكد من عدم وجود أيّ خلاف بيني وبينه، رغم أنه لا علاقة لك بذلك مطلقاً. ضحك ساخراً وقال: (رُوحْ.. رُوحْ.. يا أستاذ. الإسقاط دخل الإضبارة، ولن أعيده لك ولا لموكلك، و شوف لك غير سالفة تحجي بيها).

تدخل القاضي حسين الويو، وقال اﻷستاذ فواز معه كل الحق ويجب إعادة إسقاط الحق له أو لموكله ما دام أنه لم يطلبْ ضَمَّه إلى إضبارة الدعوى، ولم يُبرزْه في جلسة علنية ولكن المستشار رئيس المحكمة أصرَّ على عنادِه و غيِّه و لم يُعدْ لي إسقاط الحق، مخالفاً بذلك قانون أصول المحاكمات وآدابها بعباراته النابية تلك، ما دفعني لتقديم طلب تصوير للإسقاط، وحصلت على عدة صور مصدقة منه، سلَّمتُ إحداها للموكل الذي بادر إلى تسليمها إلى خصمه، وعلى إثرها استلم المبلغ المالي المتبقي .. و عاد إليَّ في اليوم التالي ودفع كامل أتعابي، وتفرغت بعدها لمناكفة المستشار رئيس المحكمة لإظهار مخالفته لقانون أصول المحاكمات وآدابها وإجباره على تسليمي أصل إسقاط الحق، رغم عدم حاجتي له بعد أن استلم الموكل كامل حقوقه، وإكراهه على تعلّم احترام أصول المحاكمات وآدابها وإعادة الحقوق إلى أصحابها.

في اليوم التالي كتبت مذكرة خطية ذكرت فيها اﻷخطاء القانونية التي ارتكبها رئيس المحكمة بحقي وحق موكلي، و كررت مطالبتي فيها بإسقاط الحق .. وأعددتها لإبرازها في جلسة المحاكمة القادمة بعد عدة أيام. ويشاء القدر أن يقع رئيس المحكمة في خطأ قانوني آخر .. حيث حضر إليَّ موكلي مرتبكاً و قال: كنت مارّاً من أمام محكمة الاستئناف أبحث عنك، فناداني الرئيس قائلاً: ألست فلان بن فلان؟ قلت: نعم. قال ألم تسقط حقك بالدعوى؟ قلت: نعم قال: إذا لماذا يطالب محاميك اﻷستاذ فواز باسترداد إسقاط الحق من إضبارة الدعوى؟.

قلت: لا أعلم سيدي.

قال: إذاً تعال في يوم كذا الساعة 11 وأحضر جلسة المحاكمة بنفسك. فأجبته ولكني موكل المحامي اﻷستاذ فواز عويد وهو سوف يحضر عني. نهرني قائلاً: قلت لك تعال واحضر بنفسك جلسة المحاكمة، ولا ترد على كلام المحامي.

وأضاف مرتبكاً .. ماذا حدث بينك وبينه يا أستاذ؟ طمأنته وقلت له: هل أنت مستعدّ لكتابة تصريح خطي بما حدث معك دون زيادة أو نقصان. فوافق على ذلك، وكتب الحادثة كما وقعت معه، ووقع عليها ببصمة الابهام إلى جانبه أحد الشهود ..

ثم أخذته إلى رئيس فرع نقابة المحامين اﻷستاذ محمود عبيد الغبين، وكرر أمامه ما حدث معه حرفياً مع رئيس المحكمة ودوّن ذلك في سجلات النقابة، وفي موعد جلسة المحاكمة كنت واقفاً أمام باب المحكمة، وبدأ الرئيس بدعواي ونادى على اسم موكلي بدلاً من اسمي.. معتقداً أنه سوف يحضر بنفسه ليقرَّ بالإسقاط مجدداً في الجلسة، ويُحرجني ويفوّت عليّ فرصة استرداده، ويصلّح المخالفات القانونية التي ارتكبها، و لكنه فوجئ بدخولي قاعة المحكمة وكانت تغصُّ بالمحامين .. فصرخ في وجهي قائلاً: هذه دعوتك التي صرعتنا بها يا أستاذ. فأجبته أنت صرعت نفسك بنفسك.. عندما أخذت إسقاط الحق من موكلي دون وجه حق يذكر .. فزعق بانفعال شديد قائلاً:

اسمعوا يا محامين لهذا المحامي الذي يريد استرداد إسقاط الحق الذي قدمه موكله في إضبارة الدعوى .. فأجبته: موكلي لم يبرزه في الدعوى وأنت من وضعه في إضبارة الدعوى رغماً عنّا.. وأنا أدرى بمصلحة موكلي ومتى يجب أن أبرز إسقاط الحق في الدعوى، وأعلم أنّ موكلي أخبرني أنك اتصلت به أمام باب محكمتكم، وطلبت منه أن يحضرَ جلسة المحاكمة بنفسه، و يقرَّ إسقاط الحق في الجلسة وأن لا يردَّ على كلام المحامي، وهذه زلّة مسلكية ومخالفة لقانون أصول المحاكمات الذي يُلزم قضاة الاستئناف بعدم قبول حضور المتقاضين إلا مع محاميهم حرصاً على مصالحهم .. وعدم تحريض الموكلين على المحامين.

وهنا ثارت ثائرة المستشار، وأرغى وأزبد وفتح ضبطاً بالحادثة معتبراً أنّ ما قلته فيه تعديّاً على هيبة المحكمة وكرامتها، وفيه إهانة وتحقير مباشر لشخص رئيسها، و قرّرَ إحالة الضبط إلى القضاء العسكري المختص بالنظر في الجرائم الواقعة على السلطة القضائية.

ذُهِل المحامون الموجودون في غرفة المحكمة من المشادة الكلامية التي جرت بيني وبين رئيس المحكمة.

في اليوم التالي اتصل بي مفوض قصر العدل المحامي جمال الدخيل – رحمه الله – وبادرني إلى القول: أستاذ فواز.. أنا أعرفك رجلاً هادئاً ورزيناً، كيف تغلط على رئيس محكمة الاستئناف، وتوجه له كلاماً جارحاً ومهيناً على قوس المحكمة وأمام جمهرة من الزملاء المحامين، ألا تعلم أن تصرفك هذا يُعدُّ جرماً جزائياً وزلّة مسلكيّة يعرضانك للسجن و للشطب من جدول المحاماة؟ لا سيّما أن الرئيس قرّر إرسال الضبط إلى القضاء العسكري لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقك.

نظرت إليه شزراً وقلت له: بما أنّك محامٍ ومفوّضٍ لقصر العدل.. أعتقد أنْ مهمتك اﻷساسية هي الدفاع عن حقوق المحامين وكراماتهم التي ينتهكها بعض القضاة المفترين المتعجرفين والوقحين دائماً… أو على اﻷقل تخفيف التوتر القائم وحسم الخلافات التي تحدث بينهما بالمصالحات الوديّة .. أليس كذلك؟

أجاب: نعم .. وهو كذلك.

قلت: ولكني فوجئت بك تكيل لي الاتهامات والتهديدات مباشرة وكأنك تتحدث بلسان القاضي المستشار، أو كأنك متأكدٌ أنني أجرمت بحقه.

أجاب: هذا ما سمعته من أقوال الآخرين. قلت: ومتى كانت الحقيقة تؤخذ من أقوال الآخرين؟. أليس اﻷجدر بك أن تسمع أقوالي، ورأيي أنا بالحادثة أولاً .. قبل أن توجه لي كلمات اللوم والعتاب والتهديد والوعيد التي تليتها على مسامعي لتكون حياديّاً ومنصفاً مع مهمة مفوض القصر المكلّف بها على اﻷقل. شعر بالحرج قليلاً واعتذر عمّا بدر منه بحقي.

رويْتُ له الحادثة كما جرت وسألته:

هل يحقُّ للقاضي أن يحتجز إسقاط الحق الجاري خارج جلسة المحاكمة، دون أن يطلب المُسقط ضمّه لإضبارة الدعوى ودون إبرازه في جلسة علنية؟ قال: لا.

قلت، وهل يحق له أن يوجه كلمات سوقية ونابية للمحامي؟ قال لا.

قلت وهل يحق له أن يتصل بموكل المحامي، ويطلب منه أن يحضر جلسة المحاكمة بنفسه، وأن لا يرد على كلام المحامي؟ قال: لا.

قلت: وهل يصح قانوناً أن ينادي القاضي في جلسة علنية على اسم الموكل، ويتجاهل المحامي الذي يمثله في الدعوى؟

قال: لا ..

فأخرجت من جيبي صورتين عن تصريح الموكل الذي شرح فيه واقعة اتصال المستشار به وتوجيهه لحضور جلسة المحاكمة بنفسه وتجاهل المحامي .. وسلّمتها لمفوض القصر، وقلت له: إذا سمحت سلّمها للسيد المستشار ليرفقها مع الضبط الذي نظمه، وسوف يوجهه إلى القضاء العسكري .. لنرى بعد ذلك من المخطئ ومن المصيب؟؟!!.

كرر اعتذاره مجدداً، ووعد بحلّ الموضوع وديّاً ..

في اليوم التالي اتصل بي رئيس فرع نقابة المحامين في الرقة اﻷستاذ محمود عبيد الغبين ورجاني أن أرافقه إلى غرفة المستشار رئيس المحكمة الذي استقبلنا بحرارة وترحاب باديين، واعتذر لي عما بدر منه أمام مجموعة من القضاة والمحامين المتواجدين في غرفته.

وهكذا انتصر الحق على الباطل بعد حين.

محامٍ وفنان تشكيلي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى