حكايا من أرض الشوايا

الصرع

محمد الحاج صالح

الرحلة من الرّقة حيث تحكم الدولة الإسلامية إلى الحسكة حيث حكم الكرد متعبة وتكاد تكون مستحيلة لكثر الحواجز لولا أن العمّة المرافقة لابنة أخيها كانت مسلّحة بإضبارة صحيّة سميكة، وبلسان ذرب يعرفُ ماذا يقول على حاجز داعش، وماذا يقول على حاجز الأكراد. العمّة “زكوة” تحفظ الآيات القرآنية اللازمة لتسليك نفسها لدى الدواعش، وهي أيضاً تعرف كلمات كردية قليلة تكفي لأن تبعث السرور لدى الكردي الذي يمرّ بمرحلة اعتزاز وفخر.

قبل طريق الحسكة خبرت العمة وابنة أخيها لسنتين الدربَ الطويل إلى الشام حيث أطباء الأعصاب؛ عندهم عولجت ابنة الأخ من الصرع. كان من الممكن أن يتنبّه الأطباء إلى الإجهاد الذي تعانيه المرأتان ويزودان العمة بوصفات عديدة بعد أن بدا أن الأمور تسوء باستمرار. صار السفر خطراً. بلْ وعلى الطرق جرت مذابح. لكن أحداً منهم لم يفعل. كان من واجبهم أن يقولوا للعمة بوضوح وصراحة أن لا شفاء من نوبات الصرع كلّما توفرت العوامل المحرضة، وأن هذا هو الدواء ولا دواء غيره. ولكن أحداً منهم لم يفعل.

ثم أخيراً انقطع طريق الشام وتجزأت البلاد. وأصبح عاديّاً أن يتهم المسافر بالعمالة لطرف دون طرف.

ابنة الأخ مصابة بالصرع الكبير وهو مرض يأتي على شكل نوبات. نوبته مخيفة حقاً إذْ يسقط المريض أرضاً ويفقد وعيه وتختلج عضلاته وقد تنفلت مصرّاته.

كانت الجملة الأثيرة لدى العمة عند السؤال عن مرض ابنة أخيها “بأن في رأسها كهربا”. التقطت الجملة من أول الأطباء الشوام الذي شرح بتبسيط أن مرض الصرع سببه انفلات شارات كهربائية في الدماغ. وهي لا تريد أن تصم ابنة أخيها بأنها مصابة بالصرع لأن تلك الكلمة كانت في ذهنها مرتبطة بالجنون. بهذا ترسخت وتثبتت كلمة كهربا على لسان العمّة وصارت اسماً لمرض ابنة أخيها. كهربا بالراس.

لم تكن نهاية طريق الحسكة تودي إلى طبيب ما. لا أبداً. وإنما إلى شيخ صوفي كردي. الناس عندنا يقولون “الغرقان يتلقّف الجراف”. تصورْ غريقاً في مجرى الفرات يَخمش جدار الجرف محاولاً إنقاذ نفسه؟ عبث؛ لن ينجو بالطبع.  إذْ إن الأجراف حادٌّة وطينية زلقة. ولكنه غريق، والغريق يتعلق بقشّة. لكثرة ما تداول الناس عن معجزات الشيخ اقتنعت العمّة، وطرقت الطريق مرات ومرات متمسّكة بالقشّة. وتحول تعريف مرض الفتاة عند العمة من الكهربا إلى الجن الكافر. هي لا تلفظ كلمة جن وإنما تشير سرّاً إلى رأسها مع فتل سبابتها وتحتار بين أن تدمدم جنٌّ في الراس أو كهربا في الراس، فلا تجد سوى ذاك النوع من الدمدمة مختلطة الحروف.

آخر مرّة تعترست الأمور. أعادهما حاجز الدولة الإسلامية مرفقتين إلى أحد المقرات للتحقيق بعدما روت العمّة القصة من طقطق للسلام عليكم. روت كل شيء منذ اليوم الذي قتل فيه كل أفراد عائلة الفتاة الأب والأم والأخوة الثلاثة في حادثة سقوط صاروخ السكود في ساحة المجمع. من يومها وليس للفتاة إلا العمة. شكّ المحققون بأن هناك شيئاً ليس على ما يرام، وأفهموها أن الذهاب إلى ديار المرتدين في الحسكة جرم، كما أن الذهاب إلى الشام حيث دار الكفر جرم أيضاً. لا شاماً ولا حسكة بعد اليوم قالوها بحزم.

وفّر جو الضغط والخوف وتعابير وجه العمة الهلع والوجوه المقنّعة للمجاهدين والاتهام المريع ما يكفي لأن تأتي النسمة السابقة للنوبة؛ وهي قد تأتي بشكل رقصة كهربائية داخل الدماغ أو لمعاناً أوْ أوْ ثم تأتي الحركة المميزة تغزّ الفتاة عينها في السقف لثوان ثم تنلقب العينان ويختفي سوادهما ولا يبقى إلا البياض ثم السقوط والاختلاج.

تفرّج جمع من المجاهدين على المشهد، وعلى الرغم من أنهم تحاجزوا كي لا يروا من جسد الفتاة ما ليس من حقهم أن يروه، إلا أنهم ظلوا متسمّرين يحوقلون، وأجمعوا أن بالفتاة جنّاً، وأنها يجب أن ترقى في مركز الرقية. هكذا تخلصت العمّة من الاتهام والتحقيق، بل وتم نقلهما معزّزتين مكرّمتين إلى مركز الرقية. بناء مركز الرقية قديم ومؤلف من طابق واحد وقد بني أولاً كي يكون مقرّاً للاتحاد النسائي في أواخر العقد السادس من القرن الماضي وجدد عدة مرات. وكانت الفتاة قد صحت خجلة مطرقة لا ترفع عينيها.

ما إن لمس الراقي جبين الفتاة حتى ارتجفت وأرسلت نظرات متضرعة إلى العمّة. كان الراقي رجلاً مَهيباً خمسينياً له لحية طويلة وخطها الشيب. وكانت غرفة الرقية منارة إنارة قوية تكاد تعمي. قرأ الشيخ المعوذات بسرعة وبصوت خفيض وهو يكبس على رأس الفتاة ثم قال جهريّاً بصوت عال باسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك. باسم الله أرقيك. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك.

أنْ تتوالى نوبات الصرع بفترات متقاربة فإن في الأمر إنذار سيء للغاية. كانت الفتاة مرعوبة متمددة في وضع متشنج. وكلما حرك الشيخ يده رمعت. وفجأة غرست الفتاة عينها في السقف ثم كالعادة انقلبت عيناها وشرع جسدها يختلج ويرمع في حركات مفاجئة عنيفة واندلع لسانها معضوضاً مدمى وغابت عن الوعي والأدهى أنها بالت على نفسها. بللت ثيابها وبللت الديوانة. وبدا الراقي ذو اللهجة الخليجية حائصاً لا يدري ما يفعل مدمدماً بآيات من القرآن فاركاً الهواء بيديه.

بعد أيام، يوم 6 حزيران 2017 توقفت عدة سيارات تقل مجاهدين أمام بيت العمّة وبرفقتهم بعض من أقارب العمة. جاؤوا لخطبة الفتاة للشيخ الراقي. وخلف ستارة في غرفة الضيوف كانت العمّة تتسمع إلى لغط الرجال وفي رأسها تدور الرغبة العارمة والهمّة في طردهم مهما كانت العاقبة لولا أن الله أعفاها. فقد بدأ القصف العنيف واهتزّت الأرض. انفضّ المجاهدون وهم يكبّرون. وانسلّ الأقرباء خجلون.

طبيب وكاتب قصة

سوريا ـ الرقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى