حسين نعمة.. أيقونة جيل الرواد في الفن العراقي

*إرث موسيقي خالد وذكريات طفولة مرفهة
*”غريبة الروح” حكاية جبّار الغزّي: شاعر مغترب وأم تذرف الحنين
*”يانجمة” البداية.. و”غريبة الروح” الخلود
*الفن رسالة والحفاظ على الإرث مسؤولية
*أغاني نعمة: بصمة لا تُمحى في ذاكرة العراقيين
هدير الجبوري
الفنان الكبير حسين نعمة كان ولا يزال رمزاً فنياً كبيراً من رموز الأغنية العراقية منذ بداية ظهوره كمطرب أواخر الستينيات من القرن الماضي وحتى اليوم. التقيناه مؤخراً وأجرينا معه هذا الحوار. رحب بنا كثيراً، وأعرب عن سعادته بمخاطبة جمهوره عبر الصحافة المكتوبة. وتناول الحديث موضوعات عدة تشغله وتشغل جيل الرواد، الذي يُعتبر أحد رموزه البارزين.
– كيف يرى حسين نعمة واقع الفن والفنان العراقي اليوم؟ وما هي رؤيته الشخصية كونه واحداً من جيل الرواد المعروفين؟ وكيف كانت بداياته وهل واجه مصاعب حتى الوصول إلى النجومية؟

الفنان العراقي حسين نعمة
فعلاً أنا من جيل الرواد، وأجد أننا كنا محظوظين وضحايا في نفس الوقت. كنا محظوظين لأننا نلنا محبة جمهورنا العراقي، وقدمنا القصيدة الغنائية الرصينة التي ترافقت مع اللحن المميز في الإذاعة، بالرغم من أن الاستوديوهات آنذاك كانت بسيطة جداً وبدائية. أذكر أنني غنيت أغنية (يانجمة) في أواخر الستينيات، وتحديداً عام 1969، ونالت شهرة كبيرة رغم أن مخرجها لم يكن يمتلك الخبرة الكافية. المونتير كان يلجأ إلى قصقصة الشريط الذي كان عبارة عن بكرة كبيرة تُلصق أجزاؤها مع بعضها. هذا مختلف تماماً عن التقنيات الحديثة التي ظهرت فيما بعد ووصلت إلى زمننا الحالي في ظل الزحف الإلكتروني الذي غيّر كل شيء. لكن رغم بساطة الأجهزة المستخدمة آنذاك، كان هناك شيء إيجابي للغاية وهو أن أغانينا كانت تُغنّى بشكل مباشر. أجد في ذلك نوعاً من الحلاوة كما أحب أن أصفها. وهذا العمل أشبه بعمل سجادتين، إحداهما تُحاك يدوياً والأخرى تُنتج بنظام ماكنة. اليدوية أكثر جودة وحبكة واستمرارية. هكذا كانت أغانينا؛ رغم بساطة الإمكانيات، لكنها تركت أثراً دائماً في ذاكرة الجمهور. من الأسماء التي ظهرت معي آنذاك: الفنان ياس خضر، رحمه الله، وفاضل عواد، وبعد ذلك جاء سعدون جابر وفؤاد سالم وحميد منصور. تركنا بصمة كبيرة وجميلة في تاريخ الفن العراقي.
طفولة مرفهة
– كيف ترى الفارق بين جيلكم وجيل الفنانين الشباب اليوم؟
شباب اليوم تتوفر لهم كل المستلزمات. إذا توفرت لديهم الأموال الكافية، يمكنهم الغناء بسهولة دون المرور باللجان. أما نحن، فقد واجهنا لجنة صارمة ودقيقة جدًا. تعاملوا معنا بقسوة الفنان الحريص، وكنا نظن أنهم حاقدون علينا، لكن العكس كان صحيحًا. كان ذلك الحرص صادقًا على أن يكون الغناء والشعر واللحن بمستوى عالٍ من المسؤولية والفن الحقيقي. الشاعر كان يكتب قصائد جميلة ومعبرة، والملحن يضع لها ألحانًا رصينة.

من بين هؤلاء الشعراء والملحنين زامل سعيد فتاح، عريان السيد خلف، كاظم الركابي، كاظم إسماعيل كاطع، طالب القره غولي، محسن فرحان، محمد جواد أموري، جعفر الخفاف، وأسماء كبيرة أخرى. بعضهم توفى، وبعضهم غادر العراق وأصبح بعيدًا عن التواصل الفني. أما الأغنية العراقية اليوم، فأصبحت في الغالب ملائمة للأعراس والمناسبات، فهي إيقاع راقص وليست غناء طربيًا كما كان في السابق.
– عن عودتك إلى الساحة الفنية بأغنيات جديدة، هل كانت رغبة في إحياء الأغنية السبعينية أم خطوة جديدة بامتداد حديث؟
حين قررت تسجيل أغنيات جديدة، كان لدي أيضاً أغنيات مسجلة سابقاً لكنها لم تُصوّر بعد. السبب الرئيسي هو ثقتي بنفسي، بالرغم من الانتقادات التي وُجّهت لي بأن صوتي لم يعد كما كان بألقه السابق. أرى في ذلك ظلماً كبيراً لي. المطرب يستطيع تدريب صوته بشكل مستمر كما يفعل الرياضي بتمارين اللياقة. قررت تسجيل أغنيات جديدة لأبقى متواصلاً مع جمهوري، ولأثبت أنني لم أختفِ. لم أفكر يوماً بالمكسب المادي؛ الفنان الحقيقي يجب أن يحافظ على موهبته ولا يخسرها بالطمع في المال.
صوّرت أغنية (ضيعنا القدر) بمساعدة صديقي المخرج هادي ماهود، الذي يعيش حالياً في أستراليا. هذا العمل جاء بدافع الحب للفن، وأتمنى أن أقدم دائماً ما يُرضي جمهوري ويليق بذائقتهم.

– ما الذي يُمكنك قوله عن حسين نعمة الإنسان؟
هذا سؤال عميق وشامل. عشت طفولة مرفهة رغم الصعاب التي مررت بها بعد انفصال والديّ. تربيت في بيت جدي، حيث تعلمت قراءة وتجويد القرآن، وتأثرت بصوت عبد الباسط عبد الصمد. كبرت وأكملت دراستي، وعندما انتقلت إلى بغداد، واجهت عالماً جديداً وتحديات عديدة. الآن أعيش مع عائلتي وأبنائي الستة الذين هم مصدر سعادتي.
– حسين نعمة: إرث موسيقي خالد.
عاصرتُ العديد من المطربين والملحنين، وقدمنا معاً أعمالاً خالدة في ذاكرة العراقيين. لحن لي كمال السيد، جعفر الخفاف، محسن فرحان، طالب القره غولي، ومحمد جواد أموري، الذي كان له النصيب الأكبر في ألحاني. أغنيتي الشهيرة (يانجمة) كانت البداية عام 1969، وشكّلت لي ولزملائي مرحلة ذهبية امتدت لتكون جزءًا من تاريخ الأغنية العراقية.”
عندما قررت تسجيل أغنيات جديدة، لدي أيضاً أغنيات مسجلة سابقاً لكنها غير مصورة وليست قديمة. السبب الأول والأهم كان ثقتي بنفسي، على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت لي، واعتقادي أنني وصلت إلى مرحلة كنت فيها شبه معتزل، وأن صوتي لم يعد بألقه السابق. أجد ظلماً كبيراً في هذا الانتقاد؛ لأنني أرى الأمر مشابهاً للرسام الذي يظل يرسم حتى آخر يوم في حياته، والشاعر الذي يكتب حتى آخر يوم، باستثناء الرياضي والمطرب، حيث يتأثر عطاؤهما باللياقة البدنية. لكن الوضع يختلف بينهما، فالرياضي يعتمد على لياقته البدنية التي تتأثر بتقدم العمر، بينما المطرب يمكنه تدريب صوته باستخدام تمارين خاصة مثل “صولفيج”، التي تعني تدريب الحنجرة وتقويتها، وهو أشبه بتمارين الرياضي.
مواصلة التدريب
يجب على المطرب أن يبقى متواصلاً مع هذا التدريب. أكرر ضرورة تدريب الصوت عشر مرات في اليوم لتجنب الحشرجة في الحنجرة وتفادي إصابة الحبال الصوتية. نحن نطلق على هذا “العُرب” علمياً، ويجب تقليلها، لا الإكثار منها، لأن العكس خطأ.
بالعودة إلى حديثنا، امتلكتُ الثقة في نفسي. الأمر ليس سباقاً أو تحدياً لإثبات أنني ما زلت أغني بشكل جيد. لم تكن غايتي كذلك. أردت البقاء متواصلاً مع جمهوري من خلال ثلاث أغنيات لم أسجلها سابقًا، حتى لا أترك فراغاً بيني وبين الجمهور. كنت أهدف إلى إثبات أنني لم أنتهِ، ولم أترك جمهوري. لم أفكر يوماً في المكسب المادي، لأن الفنان الحقيقي يجب أن يحافظ على موهبته دون التفكير في المكاسب المادية.

خططت لتصوير أربع أغنيات، لكن المخرج الذي استعنت به، وهو صديقي “هادي ماهود” الذي يعيش حالياً في أستراليا، اعتذر عن استكمال الأغنيات لأنه مخرج سينمائي وليس مخرجاً للأغاني. ومع ذلك، ومن حبه لي، وافق على إخراج أغنية واحدة فقط هي “ضيعنا القدر”.
هناك أشخاص مهمون في حياتي، أبلغوني أنهم تأثروا بسماع الأغنية عندما بثت عبر قناة الشرقية. لمست من خلال ذلك محبة الناس وجمهوري الصادق لي. أعدهم دائماً بتقديم فن رصين يليق بهم.
أريد أن أقول شيئاً مهماً: عندما قدمت هذه الأغنية، لم تكن غايتي أن أعيش على ذاكرة الناس السابقة، بل أن أكون موجوداً ومستمراً معهم، وليس فقط ذكرى ماضية. طالما أنني حي وأرزق ولدي القدرة على تقديم الجديد، فسأستمر بذلك. غنيت في زمن كنا نحمل فيه رسالة ونؤدي واجبنا بقدسية وبمبادئ حقيقية. لا أريد أن أبقى أتعكز على تاريخ أغنياتي السابقة.
الآن، يجب أن أقدم شيئاً يتلاءم مع الجيل الحالي بفن رصين يحترم الإنسان. لطالما كنت أبحث عن التغيير مع التطوير.
سؤالنا الأخير: من هو حسين نعمة الإنسان بعيداً عن تفاصيل الخصوصيات؟
هذا أخطر سؤال يمكن أن يوجه لأي إنسان؛ لأنه شامل لمسيرة حياة أي منا. من الصعب اختصار حياتي بكلمات. ما أستطيع قوله: أنا حسين نعمة لفتة عزيز الميالي.
عشت طفولة مدللة ومرفهة رغم الصدمة التي عانيت منها بسبب ابتعاد والدي ووالدتي عن بعضهما. لهذا السبب، عشت أنا وأخي مع والدتي في بيت جدي. كنت صغيراً جداً، وبعدها توفي جدي وجدتي، وبقينا في نفس البيت الذي كان تحكمه التقاليد الدينية الصارمة. تعلمت قراءة وتجويد القرآن، وكنت أحب سماع القارئ عبد الباسط عبد الصمد، وأصبحت أقلده في التجويد.
كنت طالباً مجتهدًا في الابتدائية والمتوسطة، وكونت صداقات عديدة في المحلة أو ما يُسمى بـ”العكد”، وكذلك في المدرسة. كان والدي حنوناً ومحباً لنا، رغم أنه لم يكن قريباً منا. كما كان جدي يغدق علينا كل ما نتمناه أنا وأخي الأصغر. لهذا قلت إنني عشت مدللاً.
الحياة آنذاك كانت جميلة، وكانت الأواصر الاجتماعية قوية. كنا نعيش حياة بسيطة ونحب بعضنا. كنت أتنزه مع أصدقائي في البساتين القريبة، نقطع ثمار الأشجار مثل الرمان والتوت والسدر. كنت أدعوهم لشرب العصائر وشراء الساندويتشات.
كبرت وأكملت دراستي. عندما انتقلت إلى بغداد، واجهت عالماً جديداً مليئاً بالتحديات. استمرت مسيرتي حتى وصلت إلى ما أنا عليه الآن. الحمد لله أعيش مع عائلتي وأولادي الستة، الذين هم سعادتي، بالإضافة إلى أحفادي.
لو أردت التحدث عن تفاصيل حياتي، سأحتاج إلى مجلد كامل، وليس لقاءً صحفياً. لكن هذه كانت محطات رئيسية من حياتي.
جميلة أيضاً، وكان هناك أواصر اجتماعية قوية والناس تعيش حياة بسيطة وتحب بعضها البعض. كنت مع أصدقائي نذهب للتنزه في البساتين القريبة، نقطع ثمار الأشجار مثل الرمان والتوت والسدر، وأحيانًا أدعوهم لشرب العصائر وأشتري لهم الساندويشات وغيرها لأنني، كما قلت، كنت أمتلك مصروفاً يومياً يعطيني إياه جدي بكرم.
كبرت وأكملت دراستي. عندما ذهبت إلى بغداد، واجهت عالماً غريباً جديداً لم أكن أعرفه في مدينتي المتواضعة الناصرية. واجهت العديد من التحديات والمصاعب بأشكال وألوان عديدة. استمرت مسيرتي في الحياة حتى وصلت إلى يومنا هذا. الحمد لله أعيش مع عائلتي ولدي ستة من الأولاد والبنات، هم سعادتي، وكذلك أحفادي.
لو أردت الحديث عن تفاصيل حياتي، سأحتاج إلى مجلد، وليس لقاءً صحفياً. لكنني تناولت محطات رئيسية من طفولتي وما تلاها.
سيرة ومحطات
عاصر حسين نعمة العديد من المطربين والملحنين الذين تعامل معهم خلال مشواره الفني الطويل، وأثمر هذا المشوار نتاجاً فنياً زاخراً بالألحان الجميلة التي أعطيت له وتفوق فيها مع العديد من زملاء مرحلته آنذاك. من خلال أغانيه التي ظلت راسخة في ذاكرة العراقيين، أصبحت هذه الأغاني بمثابة أرشيفه الخاص.
صوت حسين نعمة العذب قد غنى من خلاله كل الألوان، وأطربت أغنياته أجيالًا عديدة تربت على سماع أغانيه المميزة. رافقت هذه الأغاني قدرته الكبيرة على استعراض الإمكانية العالية لصوته العذب الذي وصفه كبار الملحنين والموسيقيين العراقيين بأنه من أفضل الأصوات في طبقة القرار الغنائية. بمؤهلاته، أمتعنا بين لحن وآخر بجمال أكثر في كل أغانيه. أطلق عليه بعض الملحنين العراقيين الكبار لقب “الصوت الحريري الدافئ.
حسين نعمة كان محباً للمقام العراقي جداً ويجيد غناءه، لكنه فضل عدم التعدي على مساحة مطربي المقام واحترم خصوصيتهم كقراء معروفين للمقام العراقي، واكتفى بغناء أغانيه الخاصة.
لحن له كبار الملحنين العراقيين، ومنهم كمال السيد، جعفر الخفاف، محسن فرحان، طالب القره غولي، ومحمد جواد أموري، الذي نال أعلى رصيد من الألحان التي تعامل بها مع حسين نعمة. أغنيته الشهيرة “يانجمة”، التي لحنها له كوكب حمزة، كانت البداية عام 1969.
مع أغنية “يانجمة”
المصادفة قادته للشهرة من خلال هذه الأغنية. عندما لبى كوكب حمزة دعوة أحد أصدقائه لحضور حفل أقامته نقابة المعلمين في الناصرية، كان حسين نعمة حاضراً في هذا الحفل كمعلم آنذاك ولديه فقرة غنائية. سمعه كوكب حمزة عند حضوره وأعجب بصوته. طلب منه التعاون لاحقاً بغناء أغنية من ألحانه كتب كلماتها الشاعر كاظم الركابي. بذلك، تشكل ثلاثي متناسق جميل أخرج أغنية “يانجمة” للجمهور.
واصل حسين نعمة تقديم أجمل أغانيه خلال حقبة السبعينات، وكان أحد نجومها البارزين برفقة زملائه سعدون جابر، ياس خضر، وفاضل عواد. انتقل بعدها إلى مرحلة جديدة في الثمانينات والتسعينات، حيث اتخذت الأغنية أسلوباً جديداً وكلمات محدثة ترافقت مع التغيرات العديدة في الذائقة السمعية للفرد العراقي.
أصبحت الأغاني تعبر بشكل مختلف عن مشاعر الحب، القلق، الخوف من المجهول، والمستقبل. فرضت المرحلة الزمنية التي تزامنت مع اندلاع الحرب والحصار الاقتصادي مفردات جديدة في كتابة الأغاني، تعبّر عن حب الوطن وتفاصيل الحب والعشق واللوعة وانتظار الحبيب.
أعماله البارزة
أمتعنا حسين نعمة بأغاني مثل “حبيبي انساني وإني انساك”، “تحياتي إلك وين أنت موجود”، “انت على راسي”، “مكتوب أشوفك من بعيد”، “واشكد صار أعرفك”، “والله خسارة يا زمن”، “وأيامنا الحلوة”، وغيرها الكثير من روائعه الغنائية.
وصفه البعض بأنه امتداد للجيل السابق
اعتبره البعض امتداداً لناصر حكيم، داخل حسن، وحضيري أبو عزيز. كان حسين سعيداً بهذا الوصف لأنه تأثر بالجيل الذي سبقه وأحب سماع أغانيهم التي ظلت عالقة في الذاكرة.
…………………………………………………………………………………..
جبّار الغزّي وأغنية غريبة الروح
أغنية “غريبة الروح” الشهيرة التي غناها المطرب حسين نعمة، وتُعد إحدى روائع الغناء العراقي، تحمل حكاية مؤلمة. كاتب الأغنية، الشاعر جبار الغزي، غادر مدينته الناصرية ليستقر في بغداد، وانقطع عن أهله بعد أن فشل في الزواج من حبيبته بسبب ظروفه المادية. غرق الغزي في حياة العاصمة المليئة بالصخب والصعلكة، حيث وجد في هذا الجو المتمرد متنفسًا له مع أصدقائه الذين اعتادوا التردد على النوادي الليلية وزوايا الباب الشرقي، ذلك المكان الذي يعكس جانبًا من صور بغداد الغريبة.
في أحد الأيام، كانت والدة الشاعر جبار الغزي في رحلة إلى بغداد برفقة أحد أبنائها، لزيارة مرقد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام). عندما مرت السيارة في منطقة الباب الشرقي، التي كانت تعرف أن ابنها يتواجد فيها حيث يعرض بسطته الصغيرة ويبيع بعض الحاجيات لتأمين مصاريفه، طلبت من ابنها الآخر أن يقودها لرؤية جبار. إلا أن الابن رفض، بسبب عدم تقبّله لطبيعة حياة أخيه وعاداته، خاصة مع علمه باحتساء جبار للخمرة باستمرار، وكانوا في طريقهم إلى زيارة الإمام الكاظم (عليه السلام).
لكن القدر شاء أن تتعطل السيارة في الباب الشرقي تمامًا، وهكذا وبمحض الصدفة، رأت الأم ابنها جبار جالسًا أمام بسطته، ربما على علبة صفيح (تنكة). أقبلت عليه بلهفة الأم التي اشتاقت لرؤية ابنها بعد غياب طويل. وبعد السلام عليه، عاتبته بحرقة وقالت له كلمات أشعلت نار الشعر في داخله. خاطبته بعتب الأم قائلة: “كم عيد مرّ وأنت ما جيت؟ وكم سنة مرت وأنت ما سألت؟” والكثير من العبارات التي تحمل في طياتها عتبًا حارًا.
هذه الكلمات أثرت في جبار الغزي وأيقظت داخله مشاعر عميقة دفعت إلى كتابة كلمات الأغنية الشهيرة “غريبة الروح”، التي تبدأ بعبارة:
“غريبة الروح… لا طيفك يمر بيها، ولا ديرة تلفيها… كثير أعياد مرّن وأنت ما مريت”.
رحل جبار الغزي بعد أن عانى من الفقر والحرمان طوال حياته، وعاش صعلكة وغربة. لكنه ترك لنا أغنية “غريبة الروح”، التي ظلت حاضرة في ذاكرة الفن العراقي. ورغم شهرتها، لا يعرف الكثيرون حكايتها المؤثرة.
كلمات الأغنية:
غريبة الروح
لا طيفك يمر بيها
ولا ديرة تلفيها
غدت وي ميل هجرانك
ترد وتروح
وعذبها الجفا وتاهت
حمامة دوح
آه غريبة الروح
تحن مثل العِطش للماي
تحن ويلفها المكابر ويطويها
وأنت ولا يجي أبالك تمر
مرت غُرب بيها
ولا طيفك !! يوعيها
وأحسك جرح بجروحي
يمرمرني وترد روحي
تفز جروح… محنة تفوح… غريبة الروح
كم هلال هلّن وأنت ما هلّيت
كثير أعياد مرن وأنت ما مريت
سنين الصبر حنّن .. وأنت ما حنيت
تَرف ما حسبت بي
وأنه وغربتي وشوقي
نسولف بيك ليليه
نقول يمر… نقول يحن
وتظل عيونه ربّيه
يا الما مش الك جيه… الك جيه
تفز جروح… محنة تفوح
وغريبة الروح… وغريبة الروح.