اللوكس والشوايا “الفاكطين”

عيسى الشيخ حسن
هل تعرفون اللوكس؟
الشباب لا يعرفونه بالتأكيد، وربّما كنّا الجيل الأخير، الشاهد على توهّجه وانحساره مرّةً واحدة، ذلك السراج المنير، الذي حوّل ليالي القرى إلى نهارات فائضة بالسمر، والتعاليل، وبدأنا ننظر إلى اللمبة والفانوس نظرة إشفاق.
.
وعلى سيرة (الأحمد العلي) فقد شهدت طقوس إشعاله، في تلك الأمسية وقد آذن الغروب، واستعدّ الرجال لتعشية ساعاتهم، بفرك آذانها دوراتٍ عدّة. كان اللوكس فانوساً كبيراً، لكنّه من دون فتيل، بل بقميصٍ أبيض بيضويّ، محكم النسج، تتخلّله دائرة زهرية كأنها ختم، مزموم بخيط رفيع يُربط بدائرة فخّار في الغطاء، وقبل ذاك يغمس بماء (السبيرتو) قبل أن يدفش (يدفع) المايسترو محقن الهواء في جرن النفط (الكاز)، كما يفعلون مع (بابور الكاز)، إلى أن يتدفق النفط من إبرة صغيرة، ويشتعل القميص الذي يرسمه اللهب كرةً بيضويةً من نور.
.
في الأماسي، نتحلّق حول صانع النور، الذي يمتلك تلك الأسرار، وبيده زجاجة السبيرتو، وعلبة الكبريت، ويتحكم بتدفق النفط عبر دائرة حمراء يمين الفانوس، قبل أن يرفعوه عند نافذة، أو يعلّقوه بسقف، فيما نحن نتابع مسلسل الظلّ الذي يمثله ولدٌ آخر بيده التي تشبه رأس وحشٍ يلتهم أيادينا الغضّة، في لعبةٍ تجمع بين الخوف والضحك، غافلين عن أحاديث الكبار.
.
حدث هذا غير مرّة، في بيت جدّي أيضاً، حين جاء خالي من العسكرية في إجازة، وحين زارنا الشيخ حسين الأعمى، وقد أدهشنا حفظه للقرآن الكريم، وقد أمّ المصلّين لجهورية صوته. بعد سنوات تسربت إلينا بعض خطب الشيخ الكشك، وكلّما سمعته تذكرت الشيخ حسين الأعمى ذا الصوت الفخم. ولكنّ حكاية اللوكس لم تنته هنا، بل رافقتنا في الرحيل إلى القامشلي، وقد تكاثرت، وجاء اليوم الذي نلت فيه امتياز إشعال اللوكس بنفسي، وإخوتي الصغار يتحلّقون حولي، مراقبين تدفق النفط من الإبرة، والتحكم بضخّها فيتحوّل اللهب إلى نور منتظم.
.
رافقنا اللوكس إلى أماسي حزيران وآب حيث بيادر العدس، حين يهب الهواء الشحيح ليلاً، فلا نملك في الليالي الظلماء إلّا إشعال اللوكس، ومتابعة (الذراوة) فلا نعود إلّا إذا خمدت موجات الهواء.
وشهدته يوماً وقد حضرت دفن أحد الموتى ليلاً، وقد وضعوه جانب القبر، لمتابعة الدفن، وقد رأيت على حجرة النفط المطلية بالكروم جموع الواجمين وكأنّني أشاهد مشهداً من فيلم.
.
في عام 1977 جاءت الكهرباء، وتسابقنا مساءً إلى الأزرار الجديدة لرؤية المصابيح المعلّقة في البيت، وتناسينا تحلّقنا كلّ مساء حول اللوكس، الذي انزوى جانباً، من دون قميص.
لم يحظ اللوكس بعمرٍ مديد مثل بعض المخترعات، وباتت تلك الأجهزة قطع آثار في البيوت، ولا أظنّ البحث عن قطع غيارها لمن ما زال يستعملها بالأمر السهل، وسمعت في تسعينات القرن الماضي أنهم يشترون نوعاً منها بثمن مرتفع لأنّه مصنوع من معدن نفيس، مثلما حدث لقدّاحات الرونسون في الوقت ذاته.
.
ولكنّ اللوكس، وهج النور الأخير، قبل حداثة الكهرباء، ظلّ نقطة علّام في تلك السنين، رفقة إذاعة لندن، والساعات السويسرية التي تعشّى عند الغروب.
***
أبحث عن معنى “فاگط” في معاجم العرب، فلا أجد كلمة في هذا الباب، إلّا من اجتماع الفاء و”قط” لتعطيا معنىً جديداً هو: “فحسب” وتأتي غالباً وراء العدد، ونحن المعلمين نهتمّ بهذا حين ندوّن درجات الطلاب، فنكتب: “عشرون فقط، ست وخمسون فقط” فإن نسينا ذلك، قال المراجع: فقّطوا الدرجة.
.
يأتي “الفاگط” في المعجم الشاويّ بمعنى الكسول المهمل في العمل، وتكون أقسى ما تكون إذا وجّهت للأنثى “الفاگطة” مضافةً إلى مفردتين أشدّ قسوةً “الجايفة العفنة”، في مجتمع قاسٍ، اشتهر بحياته الشاقّة، جامعاً بين أعمال الرعي، وأعمال الفلاحة، فلا راحة له إلّا في شهرين أو ثلاثة أوّل الشتاء.
.
وبينما يكون الدأب والاجتهاد طبع العشيرة كاملةً، إلّا أن المشهد لا يعدم وجود أسرة ما، تخلّفت عن “سستم” الشوايا الشاقّ، كأن يكسب هذا المختلف رزقه من عملٍ آخر، فلا تجده يصحو مع “الحواصيد” ولا يسري مع “الرعاة” بل هو موظّف الصحّة، أو معلّم المدرسة، وقد خلد أهله إلى الراحة والدعة، فاستحقّوا جميعاً لقب “الفگاطة”.
.
تبدو أعمال الموسم كالحرب، ويجب على الجميع التعاطف مع المحاربين سراةَ الليل، مجتهدي النهار، في البذار والحصاد والرّجاد، وقد يتطلّب العمل الفزعة، التي أصبحت احتفالية في أيام القطن، حين يشترك طلاب المدارس في القطاف، ولكنّ حصاد القمح يأتي وقت العطلة، ما يجعل الأيدي العاملة تزداد، وتصنع طقساً غريباً يبدأ بفزعات الحصاد والرجاد، وينتهي في مباريات الإنتاج.
.
كان الشوايا يتراغمون (يتنافسون) في أيام جمع السمن، وتتبارى النسوة في أيهنّ تجمع أكثر، عندما يربّعون في البراري. يذهب راعي الغنم بعكّة أو أكثر إلى الرقّة أو حلب، ويعود سحابة اليوم، بكيس كبير مليء بالسلق والمشبّك وحلوى الكعك الحمر والحلاوة، ومبلغ من المال، سرعان ما ينتشر الرقم في الحيّ.
.
في مواسم الحنطة يتبادل الرعاة السابقون أرقام الإنتاج، وسرعان ما تنتشر أسماء أبطال الإنتاج التي أنتجت أرضهم كذا كيلوغرام في الدونم الواحد، فيثنون عليهم بصفات “السبع، الشمگل، البطل” ويتبادلون سرديّة قصيرة عن أعمالهم في السقي ونثر السماد، وكمية البذار في الدونم الواحد، ونوع البذار.
فيما يبوء المتأخرون في الإنتاج بلقب “الفاگط”، في نتيجة لا يمكن فيها الغشّ في الامتحان، أو تزوير الشهادة.
.
ولا أدري إن كانت مفردة “الفاگط” تسلّلت إلى الشاويّة من الكردية أو الآشورية، أو التركيّة. ولكنّي وجدت ما يساعدني على التأويل، فربّما كانت “الفاگط” مفردة شاويّة بحتة، ولّدوا معناها من طبيعة عملهم، وربّما جاءت في فترة تالية في تطوّر الدولة المدينية، كأن يكون المفقّط أو الفاقط، هو المحاسب؛ فقد جاء في معنى فقط: “فَقَّط: (فعل)
فَقَّط الحسابَ: ختمه وقرنَه بكلمة (فَقَطْ) حتى لا يزاد عليه”. فربّما أطلقوا على عدّاد الغنم، أو كاتب الجبن، أو دكّنجي المدينة الفاقط بمعنى المفقط، ثمّ إنّهم نسبوا كلّ من تكاسل وتقاعس إلى هؤلاء، ممّن لا يعجبونهم في نعومة عيشهم، وضعفهم.
.
في دولة الحداثة، تحوّل كثير من الشوايا إلى “فاگطين”، انتسبوا إلى المدارس وزاحموا أبناء المدينة في الوظائف، والأعمال، وقرؤوا الكتب “المعقّدة”، ولكنهم ما زالوا فاگطين، في مرآة الآخر.
شاعر وروائي سوري