عبد السلام العجيلي
في الثاني عشر من شهر شباط فبراير من هذا العام 1986، وفي أحد مستشفيات مدينة دمشق، أسلمت عزيزة هارون روحها الى بارئها في أعقاب نوبة مرض مفاجئة لم تمهلها على فراش الداء طويلاً.
وعزيزة هارون شاعرة طراز وحدها في هذا الزمن الذي برزت فيه شاعرات عربيات كثيرات، تميّزن بالثقافة الواسعة والموهبة المبدعة وبالجرأة في التفكير والتعبير، وتصدرت دواوين شعرهن واجهات المكتبات فوازَيْنَ في المنزلة مشاهير الشعراء من الرجال. لم يتح لعزيزة هارون ما أُتيح لزميلاتها من حظوظ الدراسة الأكاديمية أو فرص الانتساب الى معاهد التعليم العالية. فهي قد تثقّفت على نفسها واستمدت معارفها من قراءاتها الشخصية، فنظّمت الشعر مدفوعةً بموهبتها الأصيلة وبتوهّج أحاسيسها قبل كل شيء، ولذلك كانت العاطفة في ما نظمته هي المهيمنة أكثر من الفكر، وكانت الرّقة طابعها أكثر من العُمق، ولذلك حمل شعرها من خصائص الأنوثة أصفاها، مما تؤثره متطلبات الخلق العربي في المرأة العربية مهما بلغت النبوغ أو الشهرة. من هذه الخصائص أعداد اللين والودعة، والحنان والخفر، بعيداً عمّا اجترأت عليه كثيرات من متفوقات الأدب النسوي في أيامنا هذه من ثورة أو تمرّد، أو من مصارحة جارحة في تحليل دوافع عاطفة الأنثى نحو الرجل الذي تحبه أو تكرهه.
عزيزة هارون
هذه الخصائص نفسها من لين ووداعة وحنان وخفر، وهي ما نستطيع أن نسميها بخصائص الطفولة، كانت كذلك خصائص سلوك عزيزة هارون في حياتها، وخصائص جمال محياها الذي كانت أشعارها صورة منه أو انعكاساً له. وقد ظل جمالها ذاك، حتى بعد أن قطعت في حياتها شوطاً متقدماً، يحمل الطابع الطفولي، مثلما ظلت أشعارها، حتى بعد أن خاضت تجارب الحياة وتمرست بمحنها، غنائية بريئة حتى السذاجة، بعيدة عن التعقيد الفكري أو تلاطم العواطف الهوج، ولعل من خصائص الطفولة تلك أنَّ هذه الشاعرة لم تترك لنا ديواناً مطبوعاً على كثرة ما أتيحت لها الفرصة لأن تفعل ذلك. فقد كانفي نفسها تخوّف من أن لا يكون لشعرها المجموع في ديوان أثر قصائدها في نفوس مستمعيها حين كانت تطلع عليهم بمحياها المشرق وتتلوها بصوتها العذب. بل أنها كانت تبدو حقاً كطفل في دهشتها أمام من تراه يُعجب بمقطوعاتها الشعرية، كأنها ما كانت تتوقع إعجاباً بهذا الكلام الذي يندفع على لسانها ببساطة وصدق وعفوية.
وعلى الرغم من تواضع عزيزة هارون، أو من ضعف اعتدادها بنفسها، ومن قلة استجابتها إلى ما كان يوجه إليها من دعوات إلى إلقاء قصائدها، فان شخصها وشعرها كانا دوماً موضع التقدير في المهرجانات والأمسيات الأدبية التي شاركت بها في بلدان الوطن العربي المختلفة. وليس من أهون معطيات ذلك التقدير ما كانت تثيره موهبتها، المقرونة بالجمال المقرون بالخلق الكريم، من إعجاب تحوّل عند بعض المبدعين إلى روائع. ويقطع كثير من المتأدبين، في سورية بصورة خاصة، بأن واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي في عصرنا الحاضر، وهي قصيدة “اللهب القدسي”، إنما استلهمها شاعرها الكبير من عاطفة حملها ذات يوم لهذه الشاعرة. وقد زادهم تأكداً من ذلك ان اسم ملهمة القصيدة، “نِعْم”، الذي ورد فيها حين نشرت في العدد الأول من مجلة شعر عام 1957، قد أزيحت عنه التعمية عندما ظهر ديوان الشاعر الكبير في عام 1978، فأصبح “عزّة”:
مدّلـــــــةٌ فيكِ، ما فجـرٌ ونجمـــته … مولّهٌ فيكِ، ما قيسٌ ولـــيلاه
سكبتِ قلبك في وجدانه فرأت … يا عزّ ما شئت، لا ما شاء عيناه
وثمة وجها آخر لهذه الشخصية يعرفه، جملة وتفصيلا، من داناها أو من بلغ علمه بعض ما لقيته من دهرها وظروفه.
هذا الوجه الأخير ليس كله شعراً غنائياً، إذ أن فيه المعاناة وقسوة القدر وجور المجتمع، وفيه كذلك سوء فهم الآخرين وظلمهم في أحكامهم المبنية على الجهل وسوء التقدير.
كل ذلك استهدفت عزيزة هارون له. ولكونها شاعرة، فان الآلام التي تمرّست بها تحوّلت بموهبتها الى عناصر خلق وإبداع. حرمانها من الولد، على الرغم من زيجاتها الثلاثة، كان باعث غنائها الأطفال في شعرها، لاغناءٌ بكائياً تندب حظها وحسرتها من الحرمان، بل أناشيد محبّة وعطف وإشفاق. أما تلك الزيجات الثلاث، التي يعدها عليها من لا يعرف الحقائق مآخذ، فقل أن تسربت تأثيراتها بها الى شعرها. حتى أصدقاؤها الخلص وصديقاتها العزيزات ما كانوا ولا كنّ على معرفة بكل ما فعلته تلك التأثيرات بنفسها إحساساً وتفكيراً. وحين كانت تُقدَّم اليها عروض بحياة زوجية جديدة من أناس ذوي اسم وقدر، وذلك بعد تحللها من زواجها الأخير، كانت تقابل تلك العروض بابتسامة أسى، متغلبة على المغريات بتذكر ماعانته من قدرها في الأيام السالفة. هذا ماكانت تبثّه، في بعض الأحيان وفي مناسبات تضطرها إلى ذلك، الى من يهمهم خبرها من أصدقاء وصديقات، وتبثه في كلمات قليلة مشحونة لمن يدرك ما وراءها بالمعاني الكثير. وعلى الرغم مما كابدته من وحوش الغابة، لم تستسلم الى اليأس والقنوط. لقد ظلّت ترى في نفسها زهرة لم يدركها الذبول ونجمة لم يدركها الأفول، تأمل في أن تتنفس الحياة مع من يقدّر نضرتها، فيسكره شذاها وستنير بضيائها، تقول:
عرفتُ الآن طيفَ جنية يسامرني بليلاتي
لعفت العيش في بؤسي ولم تزهر هنيهاتي
ولم يصبح عبير اللحن انداء بآهاتي
..
تعال اليّ بعد اليأس بعد الجور والظلمةْ
فروحي لم تزل روحي واني لم أزل نجمةْ
أداعب شعري الحاني تداعب شعري النسمةْ
..
عسى إن جئت تلقاني أراك حبيب ألحاني
وأنسى بالهوى نفسي وأدرك سر إيماني
وأعرف أنني أنثى تعيش بقلب إنسان
..
ما زلت أجوب الليل أبحث عن سني عمري
أكفكف دمع أشواقي إلى ظل الى زهر
أيخبو وهج أشواقي وينضب منبع السحر
..
وكم قاسيت في أسري غريبة الأسر
أفجر قلبي الظمآن أحلاماً ولا أدري