سيّار الجَميل
رحل عنا الصديق الرائع رجاء النقّاش إثر مكابدته مع مرض السرطان، وهو في قمّة العطاء.
اشتهر فقيدنا بكتابته الذكية التي تفتح الشهية، وتشرح النفس، وتزهر الحياة بلا قوالب جامدة.
رحل، ورحل معه قلمه الجميل الذي كان يضيء بوهجه حياتنا الكالحة.
رحل عنا الإنسان الذي أحبّه الجميع من الأعماق.
رحل عنا ذلك الفكر المنصف الذي كان يُكافح، ويشعل على امتداد خمسين سنة شموعاً على طول الطريق العربي.
عاش ورحل وهو عاشق للعرب والعروبة.
رحل الرجل الذي كان اسمه مثيراً للجدل دوماً، سواء بنقداته أو بموضوعاته أو بمعالجاته ومجادلاته..
وقلّما جمع مثقف عربي كل الأضداد كما جمعها رجاء بكل حيويّته، واتّقاد روحه، وانفتاح فكره، وأسلوب قلمه.
كان يؤمن بمقولة للأديب الروسي تشيخوف، ويعمل بها:
“إن كان في وسعك أن تحب، ففي وسعك أن تفعل أي شيء”.
رجاء النقاش من القليوبية المصرية شمالاً، التي وُلد فيها عام 1934، والمشهورة بطيبة أهلها، ودماثتهم، وحسن معشرهم، وبحثهم عن الحرية أينما وُجدت.
حمل شهادة اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة عام 1954، وطفقت مهارته في النقد الأدبي، فنشر في عدة مجلات، وغدت الصحافة الأدبية بالنسبة إليه عالمه الثمين.
تولّى تحرير مجلة (الهلال) العريقة بعد أن لمع دوره عند مطلع السبعينيات، ثم حرّر مجلة (الإذاعة والتلفزيون) وازدهرت على يديه.
ولبّى نداء دعوة دولة قطر، فحرّر صحيفة (الراية)، ثم تولّى رئاسة تحرير مجلة (الدوحة) الشهيرة عام 1981 حتى إغلاقها عام 1986.
عاد إلى مصر يكتب في (المصور) حتى تولّيه تحرير (الكواكب) إبّان التسعينيات، حتى تفرّغ في سنواته الأخيرة للكتابة في (الأهرام).
نال النقاش جائزة الدولة التقديرية بمصر عام 2000، وكرّم في يناير 2007 في حفل بنقابة الصحفيين بالقاهرة، حيث نال درع النقابة ودرع مؤسسة (دار الهلال) ودرع حزب التجمع.
كنت قد كتبت عنه فصلاً في كتابي (نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية)، والتي نُشرت قبل سنوات في مجلة (الأسرة العصرية) التي كانت تصدرها مؤسسة البيان الإماراتية، بعدها هاتفني الرجل من القاهرة، واسترسل مستعيداً كل الذكريات الخصبة، وشكرني، وكان مهموماً بمشكلة العراق.
نعم، قلت في شاهد الرؤية:
رجاء.. الإنسان والأديب، مثقف عصري النزعة، وأديب فكره العبارة، وناقد مبرّز، وكاتب ماهر، ومحرر بارع للصحافة الأدبية.
يتميّز بأسلوبه السهل الممتنع.. مسهب في كتاباته، عرفته وقد جمع صفتين، فهو سهل وممتنع في آنٍ واحد.
كان دبلوماسي التفكير، وله حيوية مفرطة في العمل.. يمتلك قدرة على نقد الأشياء بعد معرفتها جيداً، واختراق هياكلها، وتمييز ألوانها وأشكالها وأحجامها عن كل محتوياتها ومضامينها وكل نصوصها.
رجاء مثقف حقيقي من جيل عشق الكلمة، وترّبى في واقع له تنوّعاته وقيمه وأفكاره الحرة..
ولعلّ ما يميّزه التصاق مشاعره مع متطلبات أهله وشعبه.
تمتّع بنزعة قيادية في التفكير الأدبي والنقدي والتحرير الصحفي الشهري، ويبدو أنّه يَمزج مرونته الشخصية التي تبدو واضحة من ملامح وجهه المعبّرة عن الطيبة والوداعة.
اشتهر بابتسامته التي تبدو لي شخصياً مرآة لدواخل الرجل الطيبة وأعماقه البيضاء.
ومن أبرز أعماله التي قرأتها عن كثب:
نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته، وكتاب محمود درويش: شاعر الأرض المحتلة، والانعزاليون في مصر، وأبو القاسم الشابي: شاعر الحب والثورة، وثورة الفقراء، وفي أضواء المسرح، وثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء.
كما استوقفتني كتبه عن الشيخ المراغي، ولغز أم كلثوم، وشخصيات وتجارب، وغيرها من الأعمال المبدعة.
لقد وجدت أن رجاء له منهجه البارع في التأليف، فهو يتبنى موضوعه بكل أحاسيسه..
إنه يعشقه عشقاً كبيراً حتى يُخرجه للناس، ويبقى يلازمه طويلاً.
كتب لي مرة في واحدة من رسائله تعليقاً على مقالة كتبتها في نقد فكرة وشعار كانا قد راجا إبّان الثمانينيات، فلم يُجازف في نشرها، قائلاً بأن:
“أسباباً قاهرة خارجة عن إرادتي حالت دون نشرها، دون تفصيل مني!!”
عند ذاك، أدركت كم كانت معاناته.
لقد تلقيت قبل أكثر من 25 سنة رسالة رائعة من رجاء النقاش بخط يده، وكعادته في استخدامه قلم الحبر الأزرق، ولا أزال أحتفظ بها بين مقتنياتي الشخصية لاعتزازي بها جداً، إذ كان واحداً من الذين منحوني شهادة تشجيعية بالغة التأثير.
ومضت السنوات سريعاً، عندما التقيت برجاء في واحد من المؤتمرات العربية.. ولم نكن قد التقينا من قبل.
جلست قبالته رفقة الصديق الأستاذ المحامي الكاتب اللبناني جوزيف (جهاد) فاضل، الذي كان يجري حواراً معي، وكان رجاء يختلس النظرات إليّ بعد أن يتيه بصره دون أن يعرف من أكون..
وفجأة سأله جهاد:
“أتعرف من يكون جليسنا يا رجاء؟”
ابتسم من دون أن يعرف، وهو يهزّ رأسه بالنفي، فقال له: “إنه فلان…”
فهبّ رجاء يسلّم عليّ سلاماً حاراً، وتعانقنا وكأنّما غاب أحدنا عن الآخر دهراً طويلاً.
جلسنا طويلاً، وتبادلنا الحديث في شؤون العرب الثقافية، ومجلة الدوحة الراحلة، وعن مصر الكنانة ونجيب محفوظ.
توادعنا على أمل أن نلتقي في وقت قريب، ومضت سنوات طوال مرّت على الأمة، فكانت الحوادث خطيرة، والأهوال بليغة!
وأشهد أنه كان يتابعني وهو في مصر، وكنت أتابع بين الحين والآخر مقالات وأعمال وكتب الأخ رجاء النقاش على صفحات مجلات وصحف عربية ومصرية، وخصوصاً مجلة الوطن العربي أو الهلال وغيرهما.
ولقد فرحت جداً قبل أيام لمناسبة حفل تكريمه من قبل الهلال.
رحم الله الفقيد العزيز، فلقد أثْرى مكتبتنا العربية بأهم الأعمال.
لقد خسرت الثقافة العربية واحداً من أبرز كُتّابها ونقّادها الأقوياء من أبناء القرن العشرين.
وكلمة عزاء لكل أهله وأصدقائه..
ويكفيهم فخراً أن الرجل قد غرس أثره في أعماق ثقافتنا، وسيبقى اسمه ورسمه مع تداول الأيام.