رجاء النقاش.. طوق نجاة ومكتشف الموهوبين

عبد الكريم البليخ

في سماء النقد العربي، يبرز اسم رجاء النقاش كواحد من أكثر النقاد تأثيراً وثراءً فكرياً، فقد كان ناقداً يمتلك بصيرة ثاقبة وروحاً محبة، لا ينظر إلى النصوص بعين الناقد التقليدي المتسلط، بل بروح المحب الباحث عن الجمال والإنسانية داخل كل عمل إبداعي. لم يكن النقد بالنسبة له مجرد عملية تحليلية أو أكاديمية جامدة، بل كان مغامرة فكرية وإبداعية، يضيء من خلالها المناطق المخفية في النص، حتى يصبح النقد ذاته لوناً من ألوان الإبداع.
لم يكن رجاء النقاش ناقداً تقليدياً يسعى فقط إلى تشريح الأعمال الأدبية وتصنيفها، بل كان مفكراً مهموماً بأسئلة الوجود الكبرى، يتأمل بعمق في قضايا السعادة والرضا والعدالة، ويرى أن العالم مليء بالتناقضات التي تجعل من الصعب تحقيق التناغم الكامل بين الأقوياء والضعفاء. كانت هذه الرؤية الفلسفية العميقة حاضرة في كل كتاباته، إذ كان يسعى إلى كشف الجوانب الإنسانية في الأعمال الأدبية، واضعاً معياراً جديداً للنقد، حيث لا يكون التحليل والتقويم هدفاً نهائياً، بل أداة لإشراك القارئ في تجربة جمالية وفكرية أعمق.
أحد أهم ما يميز مدرسة رجاء النقاش النقدية هو رفضه لتحويل النقد إلى لوغاريتمات وأحاجي معقدة تعزل القارئ عن النص، فقد كان يرى أن النقد الحقيقي يجب أن يكون جسراً بين العمل الأدبي وجمهوره، وليس حاجزاً يُزيد من تعقيده. لقد قرأ الأعمال بروح محبة، ولم يكن ناقداً متسلطاً يتخذ موقف القاضي، بل كان شريكاً في الإبداع، يسعى إلى تسليط الضوء على مكامن الجمال والفرادة في كل عمل أدبي.
لم يكن النقاش ناقداً فقط، بل كان أيضاً رائداً في كتابة السيرة المبتكرة، حيث استطاع أن يمزج بين رحلة الحياة ورحلة الفكر، ليقدّم لنا نصوصاً تجمع بين التحليل الأدبي والسرد الإبداعي، مما جعل قراءاته للأدباء والشعراء ليست مجرد دراسات نقدية، بل تجارب حية تنبض بالروح والتفاصيل الإنسانية. وبهذا الأسلوب، لم يكن يسرد سيرة المبدعين فحسب، بل كان يكتب عنهم بحب ووفاء، وكأنهم جزء من حياته الشخصية.
كان رجاء النقاش بمثابة “طوق نجاة” لكثير من الأدباء والشعراء الذين وجدوا فيه داعماً ومؤمناً بموهبتهم. لم يكن مجرد ناقد يسلط الضوء على الأعمال الأدبية بعد نضوجها، بل كان يبحث عن المواهب في مراحلها الأولى، يكتشفها ويؤمن بها ويدافع عنها.
لقد كان أول من اكتشف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش وكتب عنه بحماسة شديدة، ما ساهم في تقديمه إلى الجمهور العربي كشاعر استثنائي. كما كان المبشّر بالروائي السوداني الطيب صالح قبل أن يصبح واحداً من أعمدة الأدب العربي المعاصر. ولم يقتصر اهتمامه على الأسماء الكبيرة، بل كان داعمًا للعديد من المواهب الناشئة، مثل الشاعرة المصرية ناهد طه عبد البر، التي غادرت العالم مبكراً، لكنه كان أول من ألقى الضوء على موهبتها.
كان النقاش يرى أن النقد ليس مجرد تحليل وتقويم، بل هو عملية إبداعية مضاعفة، تسعى إلى إغواء القارئ وإقناعه بوجود جوانب جديدة في العمل الأدبي لم يلتفت إليها أحد من قبل. وقد برع في هذا الدور، حيث لم يكن النقد عنده مجرد تعليقات على النصوص، بل كان إضافة إليها، وامتداداً لها، ما جعل كتاباته النقدية أشبه بالنصوص الأدبية التي تحمل في طياتها روحاً خاصة وإحساساً عميقاً بالجمال.
لم يكن رجاء النقاش ناقداً يكتب من برج عاجي، بل كان قارئاً شغوفاً يقف بإجلال أمام العظماء الذين تحدوا الظروف وقادوا البشرية نحو النور. وقف بإعجاب أمام طه حسين، الطفل الضرير الفقير الذي تجاوز كل العوائق ليصبح قامة فكرية عظيمة، وأمام عباس العقاد الذي رغم حرمانه من التعليم النظامي، استطاع أن يفرض نفسه كأحد أعمدة الفكر العربي. كذلك تأمل في حياة عبد الحميد الديب، الشاعر الموهوب والصعلوك البائس، كما انبهر بتولستوي الذي وهبته الحياة الموهبة والجمال العقلي لكنه عانى داخلياً حتى فكر في الانتحار.
رجاء النقاش لم يكن مجرد ناقد، بل كان عاشقاً للأدب، يؤمن أن الحب هو مفتاح المعرفة، وأن النقد يجب أن يكون انعكاساً لهذا الحب. لم تكن علاقته بالمبدعين علاقة ناقد بأديب أو أستاذ بتلميذ، بل كانت علاقة حبيب بمحبوب، يشعر بفرح حقيقي عندما يكتشف موهبة جديدة، ويجعل صاحبها يشعر وكأنه قد وجد من يؤمن به دون شروط.
لقد كان رجاء النقاش طوق نجاة، ليس فقط للمبدعين الذين ساندهم، بل أيضاً لقرائه الذين وجدوا في نقده نافذة واسعة تطل على عالم الأدب بجماله وتعقيداته. وبهذا الإرث النقدي العظيم، يظل اسمه حاضراً في ذاكرة الأدب العربي، ناقداً وإنساناً نادراً، عشق الجمال وعاش لينتصر له.
