مِسْيار زرگة على خَوَالها

فواز عويد خليل

حددَت الشريعة الإسلامية حقوقَ الورثةِ بدقة بين الأقارب، ومنها حقوق المرأة سواء كانتْ زوجةً أو أماً أو بنتاً .. وحقوق الإخوة والأخوات، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيل هذه الحقوق هنا .. ﻷنها مُوضَّحة بدقة في قانون اﻷحوال الشخصية للمسلمين، ولكن الغريب في اﻷمر من خلال تجاربي في مهنة المحاماة ومن بعض الدعاوى القضائية التي كنتُ وكيلاً فيها عن بعض الوريثات مقدار حجم الحقد والكراهية والضغينة التي يَكنُّها بعضُ اﻷخوة والأشقاء من الورثة ﻷخواتِهم اللواتي يُطالبن بحقوقهن الإرثية من التركة التي خلّفها المورّث المتوفى، كاﻷب أو اﻷم أو الجد وغيرهم، ومدى عنادهم الشديد وصراعهم المستميت في سبيل حرمان شقيقاتهم من حقوقهن الإرثية، بأي شكل من الأشكال، ولو اضطر إلى اتباع أساليب النصب والاحتيال على الشرع و القانون، رغم أنّ كلَّ من عرفتهم و خاصمتهم يدينون بالإسلام، وعندما تحاورُهم في الدين، تجدُهم بارعين جداً في الدفاع عنه، وأنّه هو الحل اﻷمثل لكلّ مشاكلِنا ومعضلاتِنا اﻷسريّة والاجتماعيّة. وعندما تحاورهم عن حقوقِ شقيقاتِهم الشرعية في الإرث المختلف عليه بينهم وبينهنّ، والذي هو حقّ مشروع لهنّ بقوة الشرع والقانون .. موضوع الدعوى القضائية القائمة بينهم .. لعلّنا نجدُ حلّا مناسباً للخلاف القائم بينهم ودّيّاً و رضائياً.. وننهي الدعوى بينهم صلحاً لكي نحافظ على البقيّة الباقية من أواصر اﻷخوة والمودة والقربى بينهم، ويُجيبك أغلبُهم: المرأة لدينا، وفي أعرافنا وتقاليدنا وفي موروثنا العشائري والقبلي، لا ترثُ مطلقاً!. مؤكداً “هل نحنُ أغبياء لكي نعطي ما خلّفه لنا آباؤنا وأجدادنا من مالٍ ومتاعٍ وأراضٍ إلى الأجانب و الغرباء!”.
وعندما تسألهم: وهل شقيقاتكم من اﻷجانب والغرباء؟ يجيبون بسخرية واستهزاء، نعم. ﻷن ما سوف يأخُذْنه من أموال آبائنا وأجدادنا سوف يسلِّمْ ﻷزواجهنّ وأبنائهنّ، وهؤلاء أجانب وغرباء بالنسبة لنا .. ولا حقّ لهم في أموالنا، متناسين تماماً ما نصّ عليه الشرع الإسلامي والقانون من حقوق إرثيّة للمرأة ..لا سيما أنها لا تتعارض مع جشعهم وطمعهم ومصالحهم المادية.
منطقٌ عجيبٌ، وتبريرٌ غريبٌ.
حول هذا الموضوع تحضرني حادثتان طريفتان ..
الحادثة اﻷولى، سمعتُها من المحامي اﻷستاذ محمود عبيد الغبين، أبي أكرم عندما كان رئيساً لفرع نقابة المحامين في الرقة آنذاك، وملخصها أنّ وفداً من فرع نقابة المحامين في الرقة برئاسته .. زار محافظ المدينة الجديد الوافد إليها حديثاً، أولاً – لتهنئته بمنصبه الجديد، كما هي العادة ولوازم البرتوكول، وثانياً – أملاً بأن يُحَصِّلوا منه بعضَ المساعدات المالية لتأثيث مكتب مقر فرع نقابة المحامين بمفروشات جديدة. و بعد المجاملات المعتادة بين الطرفين، لمَّحَ اﻷستاذ محمود غبين للسيد المحافظ الجديد عن حاجة فرع النقابة لمفروشات جديدة، و أنّ خزينة الفرع المالية عاجزة عن تأمينها، ويطمعون بكرمه على تأمين تلك الاحتياجات. فوجئ الجميع باعتذار المحافظ.. و مما زاد الطين بِلَّة.. أن المحافظ بدأ يشكو فقر حال صندوق مجلس المحافظة، وهو بحاجة لمن يساعده مالياً، وكما يقال في اﻷمثال (جيناك يا عبد المعين تاتعين .. لگيناك يا عبد المعين تنعان).
وهنا انتفضَ اﻷستاذ محمود الغبين وقال:
“أبوووو .. صار علينا مثل مِسْيار زرگة على خوالها .. صَبَّحْ الطَّاردْ مَطْرودْ”. فضجَّ الجميعُ بالضحك، واستغربَ المحافظُ من ضحكِ الجميع .. وهو “مثل اﻷطرش بالزفّة مو دَرْيان شِنِي السالفة”.
استفسرَ المحافظ عن سببِ الضحكِ، فطلبَ بعضُ الحضور من اﻷستاذ محمود أن يروي لهم قصة هذا المثل الذي أضحكهم، فقال كعادته موارباً: أخشى أن يزعلَ المحافظ مني، فطمأنه بعضُ الحضورِ قائلين:
“لا.. لا .. لا تخاف المحافظ ما راح يزعل منك أبداً .. احكي لنا قصة هذا المثل، و لا تخاف”.
قال: زركة اسم إمرأة من إحدى العشائر العربية، وسبق أن تزوجتْ من رجل من عشيرة أخرى، وسافرتْ معه حيث يقيم مع عشيرته بعيداً عن مضاربِ أهلها وعشيرتها، ومرتْ اﻷيام والشهور والسنين وهي بعيدة وأخبارهم منقطعة عنهم، وتعرضتْ لفقرٍ وعوزٍ مادي شديد، وسمعتْ مؤخراً أنّ والدتها قد توفيتْ وتركتْ إرثاً كثيراً ومالاً وفيراً ودواباً وجمالاً.
فقررتْ الذهاب إلى مضارب أهلها وعشيرتها للتعزية أولاً، ولكي تطالب بحصتها ونصيبها الشرعي من تركة والدتها ثانياً. وعندما وصلتْ إليهم رحّبَ بها الجميع، وبعد أن استقرَّ بها المقام وأمضت يوماً أو يومين طالبتْ أخوالها أشقاء والدتها بحصتها من تركة والدتها .. فجاوبها بعضُهم: (اسمعْ القَحْبة شِتْگُولْ!! عَجَلْ يَوَلِّي جايا من كل عَگْلِجْ دوريين ورثااات .. الله لا جَانْ جَابْ الظَّعَنْ .. سَوَّودْ الله وَجْهِجْ، وجه البومة. إحنا نحَسْبِج حَزْنانة على أمج و جايا تعزّين .. ثاريج جايا دورين ورثات. تخسين و تهبين”. وانهالوا عليها ضرباً بـ “العصي” (محاذيف) “لبين ما وَهَنُوهَا.. و نهنهوها (كَسَّرُوها)، وبالأخير (گرعوها) قرعوها و دَزُّوها على زلمتها بعباية. يعني أرسلوها إلى زوجها مكسرةً وملفوفةً بعباءة! وكلمة (گرعوها أو قرعوها ) لها معنيان .
اﻷول – حقيقي – يعني حلقوا لها شعرها كاملاً وأصبحتْ قرعاء بدون شعر.. والثاني – مجازي – يعني اغتصبوها و نكحوها، ولستُ متأكداً ما إذا كان اﻷستاذ محمود غبين يقصد من كلمة گرعوها، المعنى اﻷول أو المعنى الثاني ..أو المعنيين معاً.
ضحكَ الجميعُ مجدداً بما فيهم محافظ المدينة .. وعادَ الوفدُ بخفيّ حُنين!.
والحادثة الثانية – شاهدتُها وعاينتُها بنفسي، وبأم عيني. وملخصها أن زوجةَ أحدِ أقربائي طلبتْ مني أن أقيمَ لها دعوى قضائية ضدّ شقيقها تطالبه فيها بحقوقها الإرثية التي آلت إليها من والدها. فنصحتها مرات عديدة أن لا تلجأ إلى القضاء، وأن تحاول حلّ مشكلتها معه وديّاً بمساعدة بعض اﻷقرباء والمصلحين، للمحافظة على أواصر القربى والمودة بينهما .. ولكنها أصرت اللجوء إلى القضاء؛ ﻷن شقيقها شرسٌ، ويَصْعُبُ الوصولُ معه إلى أي حلّ يمنحها حقوقها الإرثية، ونتيجةً لإلحاحها الشديد لبيتُ رغبتَها، وأقمتُ لها دعوى قضائيّة بمواجهة شقيقها ومطالبته بحقوقها الإرثية التي آلت إليها من المرحوم والدها، والتي يضعُ شقيقُها يدَه عليها، ويحرمها من الاستفادة منها، وعند إجراء الكشف الحسّي والخبرة لجرد التركة في منزل شقيقها ثارتْ ثائرةُ الشقيق تماماً، بل قد جنَّ جنُونُه.. و بدأ يسبُّ شقيقَته، و يشتُمُها و يصفُها بأقذعِ الصفاتِ بذاءةً وحقارةً و سُوقيّة، و يتوعدها بالويل والثبور وعظائم اﻷمور .. ونحن نهدئ من روعه، ونذكّرُه بأنها شقيقتُه و معيبٌ بحقه ما يوجِّهُهُ لها من سباب وشتائم مزرية، بل وزادَ الطينَ بِلّة أنه حرّضَ أبنائه الشباب، ودفعهم للهجوم على أبناء شقيقته المتواجدين في محلّهم التجاري الواقع بالقرب من منزله، وضربوهم وجرحوهم وحطّموا موجودات المحل التجاري المذكور، وعاثوا فيه فساداً وتخريباً، ولمْ ينتهِ اﻷمر بمثول الجميع في قسم شرطة المدينة الداخلي، وأخيراً انتهت الدعوى بالمصالحة الإجباريّة بعد أن تنازلتْ صاحبةُ الحق عن كامل حقوقها الإرثيّة مكرهةً لشقيقها الشرس ذاك. نتيجةً للضغوط الاجتماعية والعائلية والأعراف والتقاليد العشائرية التي أكدتْ جميعُها أنه من المعيب للمرأة في مجتمعاتنا أن تطالبَ بحقوقها الإرثية المشروعة لها بقوة الشرع والقانون ممن اغتصبها منها ظلماً وعدواناً بحجة اﻷخوة و القرابة، والعادات والتقاليد والأعراف والقبلية والعشائرية.
محام وفنان تشكيلي سوري