سعد الرميحي
بعد انقطاعٍ طويلٍ أعود لمدينة السلام، منارة الخلافة العباسيّة، بغداد، الحبيبة الغالية التي تسعى لأن تتغلبَ على كل جراحها، وتمسح دموع الألم وتصنع مكانها ابتسامةً جميلةً، يصنعها تاريخها العريق وماضيها المجيد، فهي “دار السلام” وستبقى، بحول الله، ثم بعشّاقها ومُحبيها “دار السلام”.
هكذا سمَّاها “أبو جعفر المنصور”، وهكذا سُمّيت منذ مئات السنين، قدرها هو في تنوّعها العرقي والديني والثقافي والتاريخي، وفي كل مرة تتعرّض لهزّات وصراعات، ولكن لا بد أن ينتصرَ صوت العقل، لتعودَ بغداد واحة أمنٍ وأمانٍ، كما عُرفت على مرّ السنين.
يُروى في التاريخ أنَّ الخليفة العباسي الثاني “أبو جعفر المنصور” بعث إلى راهب يسأل فيما يقوله بشأن عَزمه على بناء مدينة في موقع على نهر دجلة، وحدّد له المكان.
مع الوالد محمد الخشالي وابنه عمر
فما كان من الراهب إلّا أن يقول إن هناك نبوءة قديمة تقول إنَّ رجلاً اسمه “مقلاص” سيبني يوما ًما مدينةً بين نهر دجلة وقناة الصراة، تُدعى “الزوراء” (وهو أحد ألقاب بغداد في العهد العثماني)، وسيبني فيها مسجداً لن يكونَ اتجاهه نحو مكة المُكرَّمة بشكل صحيح.
الرميحي في مقهى الشابندر
(كان محراب المسجد، رغم جمال بنائه، مُنحرفاً عن اتجاه القبلة قليلاً، ولكن المسجد يُقال إن جنكيز خان قد أمر بتدميره عندما غزا المدينة عام ١٣٩٣ م، فلم يبقَ له أثر).
بعد سماع المنصور لهذا الكلام قال:
«أنا والله مقلاص».
لتبدأ عملية بناء هذه العاصمة يوم ٣٠ يوليو ٧٦٢ م، و”بشكل دائري”، وهي المرة الأولى في تاريخ العمارة تُبنى مدينة بهذا الشكل، هذا ما ذكره الخطيب البغدادي في كتابه “تاريخ بغداد”، حيث قال:
لا يُعرف في أقطار الدنيا كلها مدينة مُدورة سواها.
فكانت بغداد، لتُصبح على مر السنين قِبلةً لصناعة التاريخ والعلوم والفلسفة وحاضرة العالم الإسلامي لسنوات طويلة، تخرج منها العديد من المؤرخين والأدباء والعلماء والشعراء، والتاريخ يشهد على أسماء العديد منهم، الذين ما زالت كتبهم ومؤلفاتهم مرجعًا في كل فنون العلوم وشتى أنواعها، حتى إن بعض المؤرخين أنكر على العثمانيين اتخاذهم “الأستانة” عاصمةً لحكمهم، ولو جعلوا من “بغداد” عاصمة الخلافة الإسلاميّة كما كانت لما انتكست دولتهم.
الصحافي الكبير سعد الرميحي في مقهى الشابندر
كل هذا التاريخ العريق لهذه المدينة حَبَّبني في زيارتها، وهذا ما تمَّ لي ما بين ٢٨ يونيو حتى ١ يوليو ٢٠٢٤ م، بدعوةٍ كريمةٍ من نقابة الصحفيين العراقيين للمُشاركة في اجتماعات اتحاد الصحفيين العرب، ودراسة الطلب القطري بانضمام المركز القطري للصحافة لهذا الاتحاد، حتى يكتمل عِقد الدول العربيّة المُنضمة إليه، وهذا ما تمَّ بفضل الله، ثم بفضل جهود المُخلصين من قيادات وأعضاء الاتحاد، الذين وجدت عندهم كل ترحيب وتقدير للدور الكبير الذي يلعبه الإعلام القطري في دعم ومُساندة القضايا العربيّة، آملاَ أن نُكملَ المشوارَ في سعينا للانضمام للاتحاد الدولي للصحافة، ليكون المركز القطري للصحافة، قد أكمل وضعيته في الساحات الخليجيّة والعربيّة والعالميّة.
وأتاحت لي الزيارة، رغم قصرها، أن أزورَ شارع المتنبي، وإن كان وقت الزيارة مساءً، حيث يَحول الحر الشديد، الذي تتعرض له بغداد في الصيف، دون زيارة هذا المكان التاريخي صباح يومي الجمعة والسبت، وهو الوقت الذي يزدحم الشارع فيه بكل أنواع الكتب والمخطوطات المعروضة للبيع، ويكون فرصة لعشاق الكتاب وروّاده لاقتناء ما يرغبون من مطبوعات وكتب تاريخيّة جميلة.
يقف أمام تمثال الشاعر أبو الطيب المتنبي
ثم عرجت لمقهى “الشابندر” التاريخي الذي تأسس عام ١٩٠٧م كمطبعة يملكها “موسى الشابندر” وهو من إحدى العائلات البغداديّة الثريّة في ذلك الوقت، ولكن بعد فترة من الزمن وبالتحديد عام ١٩١٧ خلال الحرب العالميّة الأولى تحوّلت لمقهى، كانت أحداث العالم تجول بين روّاده من قصص وروايات، ما جعله مُلتقىً سياسياً فكرياً، الأمر الذي نجم عنه انطلاق المُظاهرات والتجمعات منه، ضدّ المُستعمر الإنجليزي خلال فترة ما قبل استقلال العراق، والتقيت مع صاحبه الوالد الغالي “محمد الشحالي” وابنه عمر، واستمعتُ لأحاديث جميلة عن هذا المقهى التاريخي ودوره الوطني ومَن زاره من قيادات عراقية وأقطاب عربيّة وغيرهم، ولعلّ من الصدف أنني لم أشاهد أياً من الألعاب داخل المقهى المُعتادة داخل المقاهي، باستثناء شاشة التلفزيون، التي تعرض قناة الـ “بي إن سبورت” ومُباريات بطولة أوروبا، ما يوحي بأنه ليس مكاناً للتسلية بقدر ما هو مكان له طابعه الخاص والذي حافظ عليه على مر السنين.
ومن المعلوم بأن المقهى تعرَّض لعمل إرهابي في شهر مايو عام ٢٠٠٧م، تمثل في انفجار سيارة ملغومة بالقرب منه، نجم عنه استشهاد أربعة من أبناء الحاج محمد وهم: (بلال ومحمد وكاظم وغانم وحفيده قتيبة)، لذلك يُطلق عليه البعض “مقهى الشهداء”.
كما أتاحت لي الزيارة أن ألتقي مع بعض روّاده من العراقيين والعرب، ووجدت عندهم الشعور والإحساس بعراقة هذا المكان وتاريخه.
ثم أزور ساحة التحرير ليلاً، وشارع السعدون، وساحة ألف ليلة وليلة، وأمرّ على نهر دجلة وأقف لاستذكار ما مرَّ عليه من أحداث مُفرحة ومؤلمة.
إنّ أكثر ما أسعدني هو قدرة هذا الشعب على لملمة جراحه، وإيمانه بأن قدره أن يتعايشَ بكل أطيافه وأعراقه وأديانه ومذاهبه، فالعراق هو وطن لجميع أبنائه، كم هو بحاجة لتكاتفهم ليعودوا به إلى ما عُرِف عنه من تاريخٍ عريقٍ وماضٍ مجيدٍ.
أمام الشهداء الخمسة
كما لا يفوتني أن أسجلَ تقديري لما لقيته من كرم حاتمي أصيل من أهل العراق، فلم أستطع أن ألبّي العديد من الدعوات، خاصة من زملائي الإعلاميين من أصدقاء أولادي، الذين وعدتهم أن ألبّي دعواتهم في المرة القادمة، إذا ما قدّر لي أن أزور هذا البلد الكريم مرةً أخرى بحول الله.
في بداية شارع المتنبي
وأختتم مقالي ببيتين للشاعر العراقي الراحل عبدالرزاق عبدالواحد يصف فيهما “منارة الخلافة العباسيّة” قائلاً:
سلام على بغداد لا مثل شمسها
ولا كدُجاها دارةٌ تتلألأُ
ولا كَثَرى بغداد في الأرضِ واحةٌ
ولا دجلة أُخرى لها الرُوحُ تظمأُ
1/9/2024