نور عبد الكريم البليخ
لم تذق طعم النوم تلك الليلة، وكأن السكون قد عَقَدَ صفقة مع قلقها، وكأن جمراً اشتعل في صدرها فأحرق كل محاولاتها للطمأنينة. تقلبت في فراشها كمن يبحث في العتمة عن ضوء لا يأتي، وكانت عقارب الساعة تجرّ خطواتها بتثاقلٍ مستفزّ، كما لو أن الزمن نفسه قد تواطأ مع أرقها.
الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل. المدينة نائمة، والظلام يحتضن النوافذ، لا صوت سوى مواء قطة الجار؛ تلك الهاربة كل مساء إلى دروب الحارات، الباحثة عن حرية مؤقتة، ثم تعود في الفجر لتنتظر عند الباب، كأنها تقول: “عدت، هل لا زلت تذكرني؟”
وأخيراً، بعد صراعٍ طويل مع السُهاد، غفَت… نصفُ عينيها مغلق، ونصفها الآخر يُراقب القلب. ذلك القلب الذي لم يكن هادئاً أبداً، فقد كان يَعُجّ بالحكايات المؤجلة، والمشاعر المكبوتة، والخوف من كل ما لا يُقال.
كانت تنتظر صديقتها، لقاءً وعدت به في مقهى وسط المدينة. لقاءً لم يكن عابراً، بل رجاءً خافتاً بأن تجد من تصغي، من تخفّف عنها ثقل الأيام، من تستطيع أن تُفرغ على أعتاب حضوره ما ازدحم في دواخلها من وجع وأمل وحيرة.
لم تكن تلك الفتاة من هواة اللهو أو إضاعة الوقت؛ كانت دائماً مشغولة بذاتها، بحلمٍ صغير تحيكه بخيوط من كتبها، وألوان رسوماتها، وأشغالها اليدوية التي تخيطها بصبر الموج على الشطآن. لكنها، رغم كل هذا الاتساق الداخلي، كانت في أمسّ الحاجة إلى رفيق روح، إلى ظلّ صديق لا يزول حين تشتد الشمس.
في صباح اليوم التالي، حملت حقيبتها وغادرت بسرعة لتصل في الوقت المحدد. ركبت القطار، وجلست تقلب في حقيبتها كأنها تفتش عن طمأنينة مفقودة. وحين رن الهاتف، كان الصوت على الطرف الآخر يعتذر، بصوتٍ باهت، عن عدم الحضور. لم تسأل، لم تلحّ، فقط قالت: “سأنتظرك غداً، إن استطعتِ”. وأغلقت الهاتف.
لم يكن اللقاء هو المهم بقدر ما كان الأمل به هو ما يمدها بالاستمرار. عادت أدراجها، كما جاءت، لكن هذه المرة كان القلب أثقل مما كان.
ما أقسى أن نمنح حضورنا لأحدهم في لحظة نحتاج فيها لحضوره، فلا يأتي! ما أقسى أن يكون لك قلبٌ مزدحمٌ بالكلمات ولا تجد من تُلقيها عليه.
نحن، في نهاية الأمر، لا نحتاج الكثير… فقط صديقاً يكون جداراً لا يسقط، ملاذاً لا يتخلى، ذراعاً مفتوحة حين تنكمش الحياة في صدورنا.
حين وصلت إلى البيت، شغّلت كاسيتًا لعبد الحليم، ورمت جسدها المنهك على السرير. لم تكد الأغنية تبدأ حتى أغمضت عينيها، غلبها النعاس أخيراً، والنوم هذه المرة لم يكن هروباً، بل استسلاماً. ومن بين ضلوعها، خرج صفير خافت كأنينه، كأنّه موسيقى حزينة لا يسمعها أحد سواها.
أي حزنٍ هذا الذي يجعل من تنفسنا مرثية؟
أي اكتئابٍ ذاك الذي يكسو وجوهنا بابتسامات مزيّفة، نخدع بها أنفسنا قبل الآخرين؟
أي يأسٍ ذاك الذي لا تغسله الأمطار ولا تمحوه المدن؟
أين أنتِ يا أرجوحة الطفولة؟!
يا من كنتِ ترفعينني عالياً لأرى العالم من فوق، من حيث لا تبدو الأشياء بهذا الثقل.
عودي إليّ، احمليني فوق الأوجاع، واسرقي من عيوني هذا الملح المتراكم.
همسي لي كما كنت تفعلين قديماً:
“غداً أجمل… غداً به أمل”.
*طالبة هندسة مدنية في جامعة TU
فيينا /النمسا