مظفر النواب .. طائر بغداد المتمرد

علي الزبيدي
في خريف سنة 2011، كنت أجلس مع صديق لي من العراق الحبيب داخل أسوار الجامعة، عندما أسمعني هذه الكلمات: “وقنعت يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير.. ولكن سبحانك!. حتى الطير لها أوطان وتعود إليها، وأنا ما زلت أطير!”
كانت الكلمات غير مألوفة على أذني، ولكنها عذبة رقيقة، تدل على شخص مهموم بهموم الأمة كلها، وبهموم بلدة، وسألته عن قائلها حينها، فأخبرني باسم الشاعر العراقي “مظفر النواب”، لأكون بعد أيام معدودة على موعد مع استلام هدية عيد ميلادي من صديقي نفسه، وكانت عبارة عن كتاب ضخم، ضم الأعمال الشعرية الكاملة لمظفر النواب.

مظفر النواب
وتعجبت عندما أخبرني صديقي بأن أشعار مُظفر في العراق نادر من يعرفها، على الرغم من كونه قد سخّر أشعاره للتعبير عن آرائه في عروبته، وفخره بكونه عراقيًاً، ولكن هذا التجهيل الذي حدث لأشعاره وله شخصيّاً يأتي بسبب المضايقات، والحظر لكافة أعماله الأدبية الشعرية، بما في ذلك الأشعار الغنائية. وقد شارك مظفر النواب بأشعاره الغنائية في كثير من الأغاني الشهيرة، مثل أغنية “الريل وحمد”، وأغنية “ليل البنفسج”، التي كانت من ألحان طالب الفرغلي، وغناهما المطرب ياس خضر. وعلى الرغم من كون الإذاعة العراقية من وقت لآخر قد تذيع كلا الأغنيتين، فإنها دائماً تمتنع عن ذكر كاتبها، بسبب الملاحقات السياسية له.
حياته ومسيرته
ولكن قبل الحديث عنه وعن أشعاره دعونا نأخذ لمحة عنه هو ذاته.. فقد ولد مظفر النواب في بغداد عام 1934م، ولد لعائلة شيعية أرستقراطية. ومنذ صغره، ونظراً لأن عائلته كانت تُقدر الفن والشعر والموسيقا والأدب، فقد أصبح لديه كم كبير من المعلومات حول هذا المجال.
ومنذ سن مبكرة أظهر “النواب” موهبة شعرية أبهرت كل من سمع كلماته، ما جعل أسرته تصمم على استكماله الدراسة الجامعية، فأكملها في جامعة بغداد، وتخرج منها وأصبح يعمل بها مدرساً حتى تم طرده منها بسبب أشعاره، وآرائه السياسية عام 1955م. بعدها ظل مظفر عاطلاً عن العمل لمدة زادت عن ثلاث سنوات، ما وضع أسرته في ضائقة مالية، ليلتحق بعدها بالحزب الشيوعي العراقي بعد الثورة العراقية سنة 1958، ودائماً ما كان ملاحقاً من الحكومة الهاشمية، وتعرض للتعذيب على يد أفرادها.
وفي عام 1963 اضطر مظفر النواب إلى مغادرة العراق، ليذهب إلى الأهواز في إيران، نتيجة لاشتداد المنافسة على الحكم بين القوميين والشيوعيين، وهناك أيضًا تمت ملاحقته، وتم اعتقاله وتعذيبه من قبل الحكومة الإيرانية، وأُعيد إلى العراق مرة أخرى، ليتم الحكم عليه بالإعدام بسبب إحدى قصائده!. خُفف الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد، وتم سجنه في “نقرة السلمان”، وهو إحدى السجون الموجودة على الحدود العراقية السعودية، وبعد سنة تم نقله إلى سجن “الحلة” جنوبي بغداد، وهناك تمكن من حفر نفق ليهرب ويتوارى عن الأنظار ويذوب في المجتمع.
بعدها، غادر مظفر النواب بغداد ليستقر لمدة سنة كاملة في محافظة الأهوار جنوبي العراق، ثم انضم إلى إحدى الفصائل الشيوعية هناك، وحاول معهم قلب نظام الحكم. وفي عام 1969، تم إصدار عفو رئاسي عن جميع المعارضين.. عاد مظفر النواب مرة أخرى ليشغل منصب مدرس في إحدى المدارس ببغداد، ولكنه بعدها ذهب إلى بيروت، ثم انتقل إلى دمشق، وزار الكثير من العواصم العربية والأوروبية، حتى عاد ليستقر في بيروت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
تعرض مظفر النواب لمحاولة اغتيال خلال تواجده في اليونان عام 1981، بعدما أخذت أشعاره وقصائده طابعًا ثوريًّا ضد الطغاة العرب، وخصوصاً في العراق ومصر وسوريا ولبنان وإريتريا، حتى إنه أقام مع المتمردين الإريتريين لفترة من الزمن، ولكنه بعدها عاد إلى العراق عام 2011.
الجدير بالذكر أن أوائل أعمال مظفر النواب الشعرية كانت قد طُبعت عام 1996 عن دار قتبر، ونجح من خلال أشعاره أن يحصد لقب “الشاعر الثوري”، وعادةً ما كان يتم ترديد أشعاره في الكثير من الدور العربية في فترة الربيع العربي. وعلى الرغم من كل ما خاضه النواب في حياته، فإنه عاش كثيراً دون جنسية، فقد كان يتنقل بأوراقه الثبوتية الليبية، التي كان قد أهداها له العقيد معمر القذافي. وتوفى مظفر في مستشفى الشارقة بالإمارات العربية المتحدة عام 2022م، بعد صراع مع المرض، وتم نقل جثمانه ليدفن في العراق، -أرضه الحبيبة- حسب وصيته.
أعماله وإرثه الثقافي
طوال عمره أنتج مُظفر النواب 74 قصيدة، جميعها غلب عليها البلاغة، وحسن التعبير، والجمال، وإظهار جماليات اللغة العربية، وتطويعها ووضعها في قالب حماسي ثوري تارة، وفي قالب الحبيب المنفي والبكاء على الأطلال تارة أخرى.

ودائماً ما كان يحاول خلال أعماله الشعرية مناقشة الأزمات لدولته الحبيبة العراق، وكذلك الأزمات التي يعيشها الوطن العربي عامة، وفلسطين الحبيبة خاصة، وجميع قصائد النواب رائعة، لكن لعل أبرزها القصائد: رحيل، قراءة في دفتر المطر، القدس عروس عروبتنا، البراءة، في رثاء ناجي العلي.
ومع رؤية العراق الجديدة 2030، أظن أنه حان الوقت لمحبي الشعر في العراق الحبيبة، ومحبي الأدب عموماً، كي يعيدوا النظر إلى كلمات وحروف قد مرت في ذهن هذا الثوري العراقي. وأترككم في الختام مع جانب من قصيدة “رحيل”، التي فيها جمال لا يوصف:
يا وحشة الطرقات.. لا خبر يجئ من العراق
ولا نديم يُسكر الليل الطويل
مضت السنون بدون معنى
يا ضياعي!. تعصف الصحرا وقد ضل الدليل
لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلي
وأخشى أن يفارقني وإن بقى القليل.
وفي احدى قصائده الشعبية يقول:
روحي ولا تكَلها: شبيج
وانت الماي
مكَطوعة مثل خيط السمج روحي
حلاوة ليل محروكَة حرك روحي
حمرية كَصب مهزومة بالفالة ولك روحي
وعتبها هواي….
لا مرّيت… لا نشديت…. لا حنيت
وكَالولي عليك هواي
وعودان العمر كلهن كَضن ويّاك
يا ثلج الي ماوجيت
تعال بحلم… ,أحسبها إلك جيّه واكَولن جيت
يلي شوفتك شبّاج للقاسم… ودخول السنة من الكَاك
يا فيّ النبع واطعم…. عطش صبّير ولا فركاك
يلرهميت… يا مفتاح فضة ولا رهم غيرك عليّ مفتاح
أجرت لك مخدتي وانطر الشبّاج اليجيبك
وانت عرس الليل والقدّاح
يا هلبت تجي وترتاح؟؟
طركَــ المسج والنوم…… طركَــ المسج والنوم
عمر واتعده التلاثين… لا يفلان
عمر واتعدّه واتعديت
ولا نوبة عذر ودّيت
وانه والمسج والنوم… واغمّض عود اجيسك يا ترف تاخذني زخة لوم
واكَلك: ليش وازيت العمر يفلان
يفلان العمر… يشكَر ولك يفلان
وهجرك دم… كل ليلة اشوفك بالحلم عريس
اكَول اليوم يجيبه…. خلص كَلبي واكَول اليوم
ولا التفتيت… ولا وعديت… ولا استخطيت
ولا طارش جذب ودّيت
ولا مرّة شلت عينك تعرف البيت
وكَالولي عليك هواي…. ورحت ابراي وجيت ابراي
حسبالي سنة وسنتين وتلاثة
واشوفك ذاك البكَلبي…. واضوكَــ الماي.. واضوكَك ماي
حسبالي اشوفك ابن اوادم…. يا شكَلك… موش اشوفك هاي
ولا حسّيت……. ولا استخطيت
ولا جيت اعله ماي
تبيع بيّه وتشتري بالسوكَــ
لا ما جيت
وكَالولي عليك هواي… كَالولي…
كَالولي…
كَالولي
وفي قصيد “الريل وحمد” الشهيرة يقول:
مرّينه بيكم حمد، واحنه ابقطار الليل، واسمعنه دك اكهوه
وشمينة ريحة هيل
يا ريل…
صيح ابقهر…
صيحة عشك، يا ريل…
هودر هواهم
ولك
حدر السنابل كطه
يا بو محابس شذر، يلشاد خزامات
يا ريل بللّه.. ابتغنج
من تجزي بام شامات
ولا تمشي.. مشية هجر…
كلبي…
بعد ما مات
وهودر هواهم
ولك
حدر السنابل كطه
جيزي المحطة…
بحزن…
وونين…
يفراكين
ما ونسونه، ابعشكهم…
عيب تتونسين
يا ريل
جيّم حزن…
أهل الهوى امجيمين
وهودر هواهم
ولك
حدر الستابل كطه
يا ريل
طلعوا دغش…
والعشق جذابي
دك بيّه كل العمر…
ما بطفه عطابي
تتوالف ويه الدرب
وترابك…
ترابي
وهودر هواهم
ولك…
حدر السنابل كطه
آنه ارد الوك الحمد.. ما لوكن لغيره
يجفّلني برد الصبح…
وتلجلج الليره
يا ريل باول زغرته….
لعبته طفيره
وهودر هواهم
ولك.. حدر السنابل كطه
جن حمد…
فضة عرس
جن حمد نركيله
مدكك بي الشذر
ومشلّه اشليله
يا ريل…
ثكل يبويه…
وخل أناغي بحزن منغه…
ويحن الكطه
كضبة دفو , يا نهد
لملمك… برد الصبح
ويرجنك فراكين الهوه… يا سرح
يا ريل…
لا.. لا تفزّزهن
تهيج الجرح
خليهن يهودرن…
حدر الحراير كطه
جن كذلتك…
والشمس….
والهوة…
هلهوله
شلايل برسيم…
والبرسيم إله سوله
واذري ذهب يا مشط
يلخلك…اشطوله!
بطول الشعر…
والهوى البارد…
ينيم الكطه
تو العيون امتلن….
ضحجات… وسواليف
ونهودي ز مّن…
والطيور الزغيره….
تزيف
يا ريل…
سيّس هوانه
وما إله مجاذيف
وهودر هواهم
ولك…
حدر السنابل كطه
دكتوراه في البلاغة والنقد من مصر