عيسى الشيخ حسن
نعِمتُ بطفولة سعيدة؛ لا لأنّي ولدت وملعقة ذهب في فمي، ولكن لأن لي حبّابات وخالات من ذهب حملني في “كاراتهن”. كانت أمي كبرى أخواتها وبنات عمّها، وكان جدّي “أبوها” أكبر إخوته، وكنتُ الحفيد الأكبر لكتيبة من السيدات اللاتي سيصبحن أمهات أيضاً، ويحملن في كاراتهن أطفالاً احتاجوا إلى نصف قرن كي يتذكروا “صايات” أمهاتنا، ويترحّموا ع اللابسات “الصاية”.
ولم تكن الصبية ولا المرأة تخرج من البيت دون ارتداء “الصاية”، وهي ثوب كامل مفتوح من الأمام، يُفصّل ليستر كفل المرأة، ولكنه ثوب متعدد الأغراض، فإن عقدن طرفيها صار “كارة” يحملن فيها أطفالهن وأطفال إخوتهن وأخواتهن وجاراتهن كي يهدأ الأطفال، ويسكنوا ويناموا. الطفل في الكارة هادئاً هانئاً، والسيدة منصرفة إلى عملها، تنظف الدار، وتلمّ الفرش، وتذهب إلى الحظيرة والولد النائم في “الكارة” مستمتع برحلات مكوكية مجانية، فيخلد إلى النوم.
كانت حبّايتي كلما عاتبت أحفادها الكبار، تذكر له: “يا ول يا ما شلتك – بـ كارتي”، أو “كوّرتك على ظهري”. تزوجت حبّابتي صغيرة، وربّما كانت دون الخامسة عشرة” ولم ترتمِ “عن حيلها” إلا في السنوات الأخيرة (1922- 2019) ولم تكن غادرت الأربعين حين جئت إلى الدنيا وظفرت برتبة حفيد أول.
و لا شك أنَّ حبابتي الحجّة فدغة الحمود قد كوّرتني الأيّام الطوال، فقد أشرفتُ على الموت صغيراً، وكانت أمي مشغولة بـ “ضناها الغيالة”. تقول لي: “وانت زغير جنت مطعطع”. جدي الشيخ أحمد قال لأبي يا ابني حرام تخسر مصاري على الحكماء هذا الولد ما يعيش”، ولا أدري كيف ضعف أبي أمام نظراتي وأنا أتطوّى، وغامر بقروشنا القليلة لأعيش.
حوش أجدادي واسع، أتخيّله الآن، ربّما ربع هكتار، أو أكثر، وربما صمم هكذا ليتسع لقطيع جدي الذي أهلكته عشبة سامة خريف 1971. ولا شك أن مشي حبابتي “وأنا في كارتها” بين القباب والدار الغربية كفيل بهدهدتي قبل النوم، كما كانت قطارات القامشلي – حلب تهدهد ركابها في الطريق الطويل، كورتنا القطارات على ظهرها أيضاً، ثم رحلت مع الحبّابات.
كانت الصاية “فرض عين” اجتماعي على نسائنا في ذلك النجع، وكان ثمة صايات رسمية “الزبون”، و “الشلاليح” الذي تفصله العرائس، ولكن الصاية الحقيقية هي التي حملت الأطفال البكّائين والمرضى “المطعطعين”، وكانت تحمل الخضار أيضاً من الحقول القريبة حين تحتال المرأة وقد قطفت من “خضرة البيت” شيئاً لعشاء يومها، فتقول لرفيقتها، وقد عقدت طرفي صايتها: “أشيلو بـ كارتي”.
كان الرجال قد تركوا لبس الصاية منذ وقت طويل، فصارت الصاية ميزة أنثوية، استبدل الرجال بها الفروة في الشتاء. والدرّاعة في الربيع والصفري، والعباءة الخفيفة المحترمة “الخاجية” في الصيف.
ولكنهم كانوا يحملون على ظهورهم “كارات خاصة”؛ ففي النصف الثاني من القرن الماضي، جادت علينا الحداثة بالأكياس الصغيرة زنة الـ 50 كغ، بدل عدول الخيش، فاستثمروا أكياس الخام البيضاء، أكياس الطحين والسكر، وملؤوها من خيرات المدينة، في رحلات تسوّق شحيحة.
كان الكيس الأبيض على ظهور الآباء مظلة المتعة والبهجة، وهو آت من المدينة، فالمدينة عندنا هي التفاح والمردقان والمشبك وخبز الطابونة، وكانوا آباؤنا جمالاً حزينة، يكوّرون أسنمةً بيضاء، ينتظرها أطفالهم ليفرغوها.
كان صديقي خالد زغريت يرى أنَّ الجمال جاء من الجمل، وبعد سنين فطنت إلى السنم ذروة الجمال، وهو ذلك الكيس الأبيض، ولم نفطن إلى أن الأب يغادر البيت “حصاناً” ويعود “جملاً”، يغادر منتصب القامة، وكيس القماش في يده ويعود والكيس على ظهره المنحني. ثمّة قتل يومي للجمل الذي يولد في المدينة، وللحصان الذي يولد في البيت. فالمدن كانت وما زالت عدوة للخيول.
تثبت المعاجم الحديثة أنَّ: “الكارة : ما يُجمع ويُشَدُّ ويُحمل على الظهر من طعام أو ثياب”. ولكن القديمة منها، لا تعطينا ما يشفي الغليل، آخرها التاج يثبت أن الكور ما التف من العمامة حول الرأس، ويبدو أن حمل الرأس قد انتقل دلالياً إلى الحمل على الظهر، فنجد (كار) عند دوزي في تكملة المعاجم: “أقصى ما يستطيع الإنسان أن يحمله على ظهره”، ولعلنا نستأنس بالبستاني في محيط المحيط حين يشير إلى ذلك: “كار الحمال: حمل الكارة”.
في الربع الأخير من القرن الماضي تراجعت “الصاية” لبست بنات المدن العباءة، والـ”مانطو” وغير ذلك، وبعد انتشار المدارس الإعدادية والثانوية في الأرياف، تلاشت “الصاية” تقريباً، ومعها ذهبت “الكارة” التي نعمنا بها أطفالاً، ومع التطور الاجتماعي الجديد ونزوع الأسر الصغيرة إلى الاستقلال المبكّر عن العائلة الممتدة، لم تعد تجد طفلاً ينمو بين حبابات وعمات وخالات.
ولكن الرجال ظلوا يلبسون صاية رمزية، حين تراهم عابسين في مواجهة مستحقات تستحق القلق، فينبه بعض أهله: ” شبيك يا رجّال، مكوّر الهم على ظهرك”.
وفي وداع “الصاية”، و “القطار ” نبحث عن مهدهدات الهم، ونتذكر أيّام “الكارة” ونقول لكم “صباح الخير”.
شاعر وروائي سوري مقيم في الدوحة