باليت المزمار

من أين جاء هذا الجمال؟

ستار كاووش

لا أعرف كيف أصف الشعور الذي انتابني وأنا أنظر إلى شوارع مدينتي وأرصفتها المبتلّة بالمطر الذي سقط هادئاً، فقد شعرتُ بلذةٍ غريبة تشبه لذة العطس أو الضحك أو حتى تقترب من طعم قبلة سريعة. لقد التمعت الشوارع مثل مرآة تعكس أشكال السيارات والبيوت والمارة، حتى تخيّلتُ نفسي وسط مشهد سينمائي يشبه تلك المشاهد التي كان يصورها المخرج كوبولا في أفلامه، حيث يتعمّد رش الشوارع والأرصفة بالماء. نعم، هذا ما فعلته بضع زخات خفيفة من المطر، مرَّت في سماء مدينتنا وغيّرت كل شيء، وكأنها جاءت لتغسل وجه المدينة في هذا الصباح المضيء وتضع أمامي هذا المنظر الذي باغتني وأنا أخرج من المرسم لشراء بعض الاحتياجات.

هكذا شغلتني هذه الشوارع النظيفة التي بدتْ واسعة وهي تستقبلني متلألئة تحت مرآة السماء، حتى تساءلتُ مع نفسي: من أين جاء هذا الجمال، وكيف توفّر كل هذا الصفاء؟ ولكي يكتمل المشهد، فلا أثر لحفرة صغيرة ولا غبار، ولا حتى انكسار في البلاطات المصفوفة بعناية فائقة. حقاً، لو أراد الإنسان أن يعمل بجد وأمانة وإخلاص، لكانت النتائج باهرة وجميلة.

تبضّعتُ الأشياء التي أحتاجها، ومع وقع خطواتي في طريق العودة تأملتُ من جديد الشارع المحاذي للمرسم، الذي ما زال يستحمّ تحت الزخات الناعمة، وفكرتُ بأصل الشارع ذاته وبفكرة الطريق. من الذي ابتكر الشارع؟ ومن الذي بدأ برصف أول طريق ليسهّل علينا التواصل؟ من الذي جعل الشارع مرادفاً للمدينة وحياة الإنسان، وجعل الأماكن المتباعدة ترتبط ببعضها من خلال هذا الخط الذي نسميه شارعاً؟ ومن الذي وطأت قدماه أول طريق؟ وهل هناك شارع في التاريخ أقدم من شارع الموكب في بابل؟ ومن الذي أطلق تسمية طريق الحرير، ومتى؟

ثم كيف عرف الإنسان الأول طريقه وهو يمدّ خطواته الأولى خارجاً من أفريقيا لينتشر في أنحاء المعمورة؟ وفوق كل هذا، لم تشغل الطرق الأرض التي نعيش عليها فقط، بل تجاوزت ذلك نحو السماء، حيث درب التبانة الذي يطلق على مجرتنا بكل ما تحتويه من شمس وكواكب ونجوم.

نعود إلى أرضنا التي نعيش عليها، والتي تحوّلت بعد كل هذه السنين إلى ملايين الشوارع المتداخلة التي شكّلت ركيزة حياتنا، وصارت المدن تتباهى بشوارعها الأنيقة التي تختار لها أسماءً من التاريخ المليء بالجمال والمعاني والرموز، حتى بتنا نتجول في الشارع كمفردة من المفردات الملاصقة لحياتنا، وصار الناس يعرفون الأماكن بشوارعها، حيث ما زال العالم يمضي حثيثًا في بناء الطرقات ومنحها أسماء ناسه المميزين، وهذا ما تقوله يافطات الشوارع القريبة مني على أقل تقدير، والتي حملتْ أسماء مثل ريمبرانت وفان خوخ وموندريان… وغيرهم.

ومثلما تعددتْ أسماء الشوارع، فقد تعددتْ أيضاً معانيها وأغراضها في هولندا. فالشارع بمعناه التقليدي يكون غالباً محاطاً بالمباني أو البيوت، وإن كان يربط بين نقطتين أو مكانين محددين تُطلق عليه تسمية “طريق”، وإن كان بمحاذاته من الجانبين صفّان من الأشجار يُسمى “جادة”، أما حين يكون الشارع عريضاً ومحاطاً بالأشجار والنباتات وذا مسارين بينهما شريط أخضر، وتوجد فيه أرائك للجلوس والاستراحة، عندها يُسمى “بوليفار”، وفي بعض الأماكن يكون هذا البوليفار محاذياً للنهر، وهو ما يقابل لدينا الكورنيش.

وفي هولندا، مثلاً، يتكوّن كل شارع من ثلاثة صفوف متوازية ومتلاصقة، وهي: الشارع الرئيسي الذي تستعمله السيارات، وبمحاذاته مباشرة شارع مرور الدراجات الهوائية، الذي يكون غالباً بلون أحمر وبعرض مترين، ويلاصقهما تمامًا رصيف آخر للمشاة، الذي يشابه في الاتساع شارع الدراجات. وهكذا يعرف كل شخص طريقه، وكل راكب أو متجول يمضي في المسار المخصص له بلا زحام يعكر يومه، ودون توقفات تعطل حياته.

وفوق هذا، هناك بعض القوانين التي تضمن السلامة، فمن يستعمل منبّه السيارة دون حاجة إلى ذلك يحصل على غرامة قدرها ثلاثمائة وسبعون يورو، ومن يستعمل الهاتف أثناء قيادة الدراجة الهوائية تكون غرامته مائة وستين يورو، وبذلك لا أمل تقريباً لحدوث الحوادث، إلا ما ندر.

تبقى الشوارع والطرق مختلفة باختلاف المكان، فمثلما هناك الخطوط السريعة في المدن الكبرى، هناك أيضًا الجادات الصغيرة غير النظامية في القرى الصغيرة، كما في الطرق التي يسمونها في هولندا “مسارات الفِيَلَة”، وهي طرق غير قانونية تُستعمل بديلاً للطرق الرسمية المعبدة، يسلكها الناس لاختصار المسافة من نقطة إلى أخرى عبر الحقول، الحدائق، المتنزهات، وحتى الغابات. وقد تولدت هذه المسارات بسبب تكرار خطوات الناس في المكان ذاته، حيث يتآكل العشب ويختفي، ويظهر لون التربة. وقد أُطلقت عليها هذه التسمية لأن الفِيَلَة تختار غالبًا أقصر الطرق، حتى لو واجهتها بعض العقبات!

كانت الإمبراطورية الرومانية قبل ألف سنة تقريباً سيدة العالم، حيث كان لديها تسعة وعشرون طريقاً عظيماً تربط مائة وثلاث عشرة مقاطعة ببعضها، وكلها تؤدي في النهاية إلى روما المركزية. لذا قال الشاعر والعالم الفرنسي أليان دي ليل سنة 1157: “كل الطرق تؤدي إلى روما”.

لكن، رغم اختلاف الطرق وتنوّع أشكالها وأغراضها وما تؤدي إليه، أقول إن لا طريق أجمل من الطريق الذي تختاره لنفسك، ذاك الذي تشعر فيه بالطمأنينة والسعادة وراحة البال.

ناقد وفنان تشكيلي عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى