تشكيل

من يتذكر سعيد شنين؟

ستار كاووش

من سنحت له فرصة متابعة الفن التشكيلي العراقي بشكل جيد، سيعرف لماذا أتساءل عن سعيد شنين، هذا الفنان الذي كان في الثمانينيات يملأ الوسط الفني بجمال خطوطه وقوة تكويناته المبتكرة وإحساسه المذهل في رسم الواقع. فقد كان يخرج من معهد الفنون الجميلة، ليتجول بين مقاهي بغداد وأماكنها المكتظة بالناس، لينهل منها موضوعات وشخصيات لوحاته. كان سعيد شنين واحداً من أفضل الفنانين العراقيين الذين امتلكوا ناصية التخطيط والرسم الواقعي بمهارة وحساسية.

أتذكره وهو يمسك قلم الرصاص ويحركه على الورق، ليصنع بكل متعة شخصيات تبدو وكأنها تتحرك وتتنفس مثلنا. وهكذا، في كل مرة يمرر فيها سعيد أدواته على سطوح الرسم، يحولها إلى سحر لا مثيل له. وفي كل السنوات التي عرفته فيها، لم أره يوماً دون أوراقه وأقلامه وحقيبته الصغيرة المليئة بالتخطيطات التي كان ينفذها في هذا المقهى أو ذاك الشارع أو حتى السوق. والكثير من أبطال لوحاته كانوا غالباً من الغرباء العابرين، إضافة إلى أصدقائه الذين كان يجعلهم يتحركون بين ثنايا أعماله مبتهجين، بعد أن صاروا له موديلات مجانية. ويُضاف إلى كل هؤلاء، تلك الشخصيات التي كان يبتكرها من خياله الخصب.

ولأننا وُلِدنا في بغداد في السنة ذاتها، فقد كنتُ قد سمعتُ باسمه مبكراً منذ دراستنا المتوسطة، حيث كانت أخبار هذا الفنان المذهل تتطاير هنا وهناك لأنه كان متمكناً من معرفة أساسيات الرسم، ولا أُغالي إن قلت إنه كان في هذا المجال بمصاف فناني العالم الكبار.

أتذكر كيف ذهبتُ لأول مرة إلى مقهى حسن عجمي بشارع الرشيد أثناء دراستي الثانوية، بنصيحة من الكاتب الصديق شوقي كريم حسن، وكان الأدباء قد انتقلوا إليها تَوًاً من مقرهم في مقهى البرلمان في الشارع ذاته. حينها كان سعيد أحد نجوم المقهى رغم حداثة سنه، وكان يقوم برسم بورتريهات مباشرة للكثير من الأدباء. وأتذكر كيف كانت نسخ المجموعة القصصية أصوات عالية، التي اشترك فيها شوقي كريم وعبد الستار البيضاني وحميد المختار وحسن مطلك، تتلقفها أيدي رواد المقهى، وتستوقفهم بورتريهات الأدباء الأربعة التي رسمها سعيد في الكتاب. ومثلما انبهرتُ وقتها بعالم الأدب والأدباء داخل المقهى، فقد توقفتُ مندهشاً أمام تخطيطات سعيد التي احتواها ذلك الكتاب، وقلت في قرارة نفسي: (الآن عرفت لماذا نال سعيد هذه المكانة العظيمة بين أبناء جيلنا، حتى وهو في هذا العمر). وحين لمحني شوقي كريم أنظر بإعجاب إلى الرسومات وأتمعن بها قبل اهتمامي بقصص الكتاب، قال لي بابتسامة ممزوجة بالإعجاب: (لقد رسمها لنا هذا اللعين هنا في المقهى مباشرة قبل أن ندفع الكتاب إلى المطبعة بيوم واحد).

كان يمكن أن يتحول سعيد شنين إلى مؤسسة أكاديمية تُعنى بالرسم الواقعي، فهو الذي أسس له مرسَماً في بغداد بمحاذاة مركز الفنون، حيث كان يتواجد فيه الكثير من شباب الرسامين الذين طوروا مهاراتهم عنده. وكان يمكن لهذا المرسَم أن يكبر ويتطور أكثر ليصبح بمثابة مؤسسة أو معهد لدراسة الفنون، لكن الزمن أراد لهذا الأمر أن يأخذ مجرى آخر، ليتبدد إبداع سعيد مثلما تبدد فن آخرين وسط تحولات الفن (والكثير من الاستسهالات المغرية) التي صاحبت الفن الحديث، يُضاف إلى ذلك عدم امتلاكنا اهتماماً حقيقياً وتوثيقاً لهذا النوع من الرسم كما يحدث في العالم.

لا أعرف أين سعيد الآن، وقد سألتُ عنه ولم أتوصل إلى معلومات كافية عن نشاطه أو فنه أو ما يقوم به، لكني لن أنسى أحد أبناء جيلي، ذلك الشاب الأسمر النحيل الذي كان يُحَوِّل قلم الرصاص إلى فتنة وسحر وجمال، ذلك الذي يضع الألوان الزيتية على قماشات الرسم لتضج بمرتادي الأسواق والجوالين والراقصات ورواد المقاهي. وكي أكون أميناً، عليَّ القول بأن سعيداً لم يكن مجرد رسام مرَّ في حياتنا كغيره من الرسامين، بل كان شهابًا أضاء مناطق معتمة وفتح بابًا جميلًا، وترك بعده الكثير من الأسئلة التي تتعلق بجدوى الرسم وما يمكن أن تضمره الأيام للمواهب العظيمة.

اختفى سعيد بقبعته العتيدة وعينيه الثاقبتين ومشيته الهادئة، وفوق كل هذا اعتداده الكبير بنفسه وثقته بالرسم. أتمنى أن يكون بخير، صديقي القديم الذي توارى وما زلتُ أتخيل حتى هذه اللحظة خطوطه الرشيقة وهي تتراقص على أوراق الرسم.

ناقد وفنان تشكيلي عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى