عبد الكريم البليخ
في زمنٍ تتسارع فيه المعلومة كالسهم، وتُستهلك كأنها وجبة سريعة، يتردّد سؤال ثقيل الوطأة: هل فقدت المطبوعة دورها؟
وهل أُصيبت الصحافة الورقية بالشيخوخة أمام سطوة العالم الرقمي، أم أن الأزمة أعمق من ذلك، وتمتدّ إلى من يُفترض أنهم جمهورها، شركاؤها، القادرون على إحيائها أو خنقها بصمتهم؟
لا شكَّ أنَّ القرّاء – بقصد أو دون قصد – يتحمّلون جزءاً من مسؤولية ما آلت إليه المطبوعات. ليس لأنهم تخلّوا عنها فقط، بل لأنهم – في كثير من الأحيان – تخلّوا عن دورهم الأصيل في محاسبتها وتوجيهها ومساءلتها.
عندما يقرأ القارئ نصاً سطحيّاً أو مادة إعلامية خاوية، ثم يمضي في طريقه دون أن يتفاعل أو يعترض، فهو، في حقيقة الأمر، يمنح شهادة براءة ضمنية لما قرأ، ويبارك، دون أن يدري، استمرار هذا الانحدار المهني.
لقد أصبحت بعض الصحف والمجلات تُغرق صفحاتها بما يسمّى بـ”المحتوى الخفيف”، تنقل لنا أخباراً غريبة من كل حدب وصوب: صوراً طريفة، حوادث مثيرة، مستجدّات الموضة، وصفات الأطعمة، مغامرات المشاهير، آخر السيارات والهواتف… وكأنها تنافس مواقع التواصل الاجتماعي، لا الصحف الرصينة.
تُزيّن العناوين، وتُلمّع الواجهة، لكنها تُفرّغ الجوهر من المضمون. فتغيب القضايا الجوهرية التي تمسّ المجتمع، ويُهمّش دور المثقف، وتُقصى الأسئلة الصعبة التي يجب أن تُطرح، وتتحوّل الصحافة إلى مرآة مشوّهة لا تعكس واقعًا، بل تصطنع زيفاً، وهنا، يُصبح الصمت جريمة.
عندما يتوقّف القارئ عن السؤال، وعن المطالبة بمحتوى يليق بعقله واهتماماته، وعندما تُكافَأ الصحف التي تسوّق الترفيه الساذج، على حساب التي تحفر عميقاً في هموم الناس، فإننا بذلك نحفر بأيدينا قبر الكلمة.
ليست الصحافة مسؤولة وحدها، بل القارئ – خاصة ذلك الذي يمتلك الوعي والثقافة – عليه دورٌ كبير. عليه أن يتكلم، يُنبّه، يعترض، يُشيد، ينتقد، يشارك.
فالمطبوعات ليست كائنات مستقلة عن قرّائها، بل كائنات تتنفس من ملاحظاتهم، وتعيش على تفاعلهم، وتموت حين يديرون ظهورهم لها.
إذا كان القارئ يرى نفسه عاجزاً، فمتى إذاً تقوم العلاقة الحقيقية بين الطرفين؟
أليس القارئ الواعي هو السلطة الأخلاقية العليا التي تراقب وتحاسب؟ أليست الصحافة مرآة مجتمعها، وهذه المرآة لا تُصقل إلا بملاحظات العابرين أمامها؟
الصحافة ليست فقط حبراً على ورق، أو كلمات تُلقى في الهواء. إنها فعلٌ اجتماعي، وموقف أخلاقي، ورسالة حضارية.
وهي لا تستطيع أن تُغيّر الواقع إن لم تجد من يؤمن بها، ويشهر صوته دعماً لها أو نقداً لمضامينها.
صحافة تستمدّ قوّتها من قرّاء لا يرضون بالدُّون، ولا يقبلون أن تُصبح الكلمة سلعة، والموقف خبراً عابراً، والحقيقة وجهة نظر.
الصحافة التي نريدها اليوم، ليست تلك التي تهمس في الزوايا، بل التي تصرخ حين يسود الصمت، وتكتب حين يخاف الجميع، وتفتح الملفات المغلقة لا تُصفّق للواقع كما هو.
كم من كاتب جريء طُوي قلمه لأنّه أزعج، لا لأنّه أخطأ؟
وكم من صوت نزيه أُقصي لأنه كتب الحقيقة عارية دون رتوش؟
وحين لم يتكلم القارئ، ظنّت بعض إدارات التحرير أنَّ القارئ لا يكترث، فتمادت في نسيان رسالتها.
ليس كل من قرأ صار قارئاً، فالقارئ الحقيقي هو من يجعل من نفسه شريكاً في صياغة المشهد الثقافي والإعلامي، لا مجرد متلقٍّ صامت.
عليه أن يُطالب بجودة ما يُقرأ، أن يعترض على الإسفاف، أن يدعم الأقلام الجادة، أن يبعث برسائل إلى رؤساء التحرير، أن يملأ هوامش الصفحات بتوقيعه الحاد حيناً، والودود حيناً آخر.
الصحافة، إن لم تجد مَن يصقلها، فإن قلمها سيصدأ، ومطبعتها ستُعيد طباعة العبارات نفسها، لا لتثير وعياً، بل لتملأ فراغاً.
هي ليست ديكوراً لعرض الألوان، بل منبراً لمن لا صوت له، صدى للشارع، ومرآة للناس.
هي التي تكتب في زمن الخوف، وتنقل الخبر لا كما يُراد لها، بل كما هو.
هي التي تتسلّل إلى العمق لا لتخدّره، بل لتبثّ فيه وعياً حقيقيّاً، يُحفّز، يهزّ، ويوقظ.
إنَّ المطبوعة، حين تفقد قرّاءها الحقيقيين، تصبح كمن يتحدث بلغة لا يفهمها أحد.
تصبح كرسالة ضاعت في البريد، أو نشرة رسمية تملأها المصطلحات الجافة، لا تحتاج إلى قرّاء بل إلى موظفين لفكّ شفراتها البيروقراطية.
الصحافة لا تحتضر… لكنها تحتاج إلى من يُعيد لها روحها.
تحتاج إلى قارئ لا يكتفي بالمطالعة، بل يُمسك بالقلم الموازي، ويكتب في الهامش: “هنا… لم تعجبني هذه السطور”، أو “هذا المقال قال ما عجزت عن قوله”، أو “أنقذوا الكلمة من هذا السقوط!”.
الصحافة لا تموت… لكنها لا تحيا إلا بكم.
30/3/202