أبو تريكة في قلوب المصريين

محمد رضوان
ليس بالضرورة أن تكون قديساً ليهبك الله السداد في الرأي، و لا لِزاماً أن تكون طاهراً ليمنحك الله الحكمة، ولا حتماً أن تكون قاضياً لتتخذ من الحق سبيلاً، فالرُشد وسداد الرأي فضل من الله يَهبه لمن يشاء، والبصيرة والتعقُل رزق من المولي عز وجل، فلا عجب إن بدا الحق ممن لا تتوقع، ومن حيث لا تدري، ولا غرو إذا ما خذل الحق أعيان البشر.
واللاعبون في عالم المستديرة أنواع ثلاث.
الأول، هم الذين منحهم الله الإمكانية والقدرة، ووهبهم كذلك العقل الذي يُهذّب هذه المنحة الربانية، فكان هذا صَوّناً وحمايةً لموهبتهم، فمارسوا كرة القدم بعقولهم أكثر ما مارسوها بأقدامهم، ثم سجلوا أسماءهم بحروف ذهبية في سجلات الأساطير.
والنوع الثاني، هم هؤلاء الذين يمتلكون أنصاف المواهب وينتظرون أنصاف الفرص، أملاً في حجز جزء صغير من خارطة كرة القدم، وقد عرف هؤلاء قدورهم جيداً، فلم يحاولوا مناطحة السحاب، بل عملوا على مجاراته والتظلُل بظله، فاحترموا كرة القدم قبل أن يحترموا أنفسهم، وأظن أن غالب لاعبي كرة القدم من هذا النوع الثاني، النوع الذي موروثه الأول والأخير هو الالتزام.
أما النوع الأخير، فهم من منحهم الله القدرة التامة على التميز، لكنهم بكل حماقة وطيش وفساد عقول، بَددوا هذه القدرة خارج البساط الأخضر، ولمّا حاولوا ممارسة اللعب، تعرّوا أمام مواهبهم، وكانت أنفسهم خطراً عليهم، فذهبوا وذهبت ريحهم، بعد أن دوّنوا أسماءهم مع الرعناء الطائشين.
وأظن أن محمد أبو تريكة من النوع الأول، لما لا؟ ، فهو واحد من هؤلاء الذين كتبوا أسماءهم في سجل الأساطير المرصع بالجواهر والأحجار الكريمة، ومع هذا كله، فإنه يظل مرثية ناي علي مسرح إغريقي عتيق، وعنوان رواية حكايات البريء، إنه حبيس محكمة نقض تجعل البينة على المُدَعى عليه، بعد أن أخذوه بالشبهات حسب قانون الكذب الأخرق، وأصروا على لصق بُقعة سوداء فوق ثوبه الأبيض، ورغم ذلك، ولأن عيون الحب ساهرة وقلبه عامر بالحقيقة، لم يجرؤ أحد على النيل من الحب الرابض في قلوب عاشقيه، هذا الحب الذي يمنح شهادات مدي الحياة للمخلصين.
أبو تريكة يعشق سياسة الاجتياح الناعم اللطيف، ويستهويه فن القتل الهادئ، لذلك فهو يحمل وجه عصفور وابتسامة طفل ومخالب شاهين، خارج البساط يشبه القط الوديع، أما داخله فهو أسد أشوس، لذلك انحنت أمامه أعتى الترسانات الدفاعية عندما كان لاعباً، ولمّا صار جزءاً من ستوديوهات التحليل، امتلك كل مفردات البلاغة الكروية والفصاحة الموثوقة.
يبتسم أبو تريكة كلما رشقوه بمدافع الادعاء الثقيلة، ويضحك كلما جَلَدوه بسياط التُهم الشنعاء، ويقهقه حينما يجعلوه مجرما ويسلبوه حيثيات الدفاع، لكنه يستسلم للبكاء حينما يتذكر المعذبين في الأرض، ويكاد ينفطر ألماً كلما وقف أمام الشاشات، ليعلن حنقه وسخطه، وفي كل مرة يضرب وجه الخذلان بسياط الصراحة، ويستأصل الحقيقة من قلوب المتقاعسين كأمهر جراح، يُجري عملياته الضخمة بلا مسكنات أو مُخَدِرات.
أحلمُ – ومثلي كثير- بأن يروه في أنسالهم وأفلاذ أكبادهم، لما لا؟ وهو المتهم بالأخلاق الرفيعة والأناقة الفطرية، وحوكم بالدماثة والخلق القويم، واتخذوا دماثته حرزاً للقضية، فكانت ضحكته سلاحاً نافذاً في وجه التواطؤ، وكلماته الصارمة بلسماً للمتوجعين المتألمين.
خَبِّرُوا الأرض، خَبِّرُوا خطوط الطول، خَبِّرُوا خطوط العرض
خَبِّرُوا الهرم والعلم، خَبِّرُوا التاريخ والجغرافيا، خَبِّرُوا الكهول والصبايا
خَبِّرُوهم جميعاً، أنه ها هنا، قابع في قلوب المصريين.
أديب الرياضة