Site icon المزمار الجديد

أماكن الكتابة وحكاياتها

أمير تاج السر

دائماً ما نسمع أو نقرأ عن أماكن معينة يتخذها الكتاب والشعراء، وكل من يعمل في مجال الكتابة الإبداعية، محطات دائمة للكتابة فيها، حيث يذهب إليها المبدع كلما أحس بالرغبة في الكتابة، أو ربما يزورها يومياً إن كان بلا وظيفة ثابتة، ويملك وقته ولديه ما يود قوله، كما هو الحال في أوروبا وأمريكا، وفي البلاد العربية لفئة قليلة، تحررت من الوظائف التقليدية، واكتفت بالقليل الذي تأتي به الكتابة، والوظيفة نفسها بالطبع لا تمنح في الغالب حياة مريحة خالية من تجاعيد الفقر، لكنها على الأقل ثابتة، ولا تتغير بتغير الظروف، إن اعتمد المبدع على إبداعه.

وفي السنوات الماضية مثلاً، كنت أكتب في منابر عديدة، وكان الأمر صعباً، لكنه محتمل، ثم تقلصت تلك المنابر إما برغبة مني أو من الذين يملكون تلك المنابر، ويسعون إلى تغيير منابعها ومصباتها من حين لآخر.

بالنسبة لموضوع الأماكن التي يتم اختيارها للكتابة، لا أعتقد أنها تملك مواصفات معينة، تشد إليها المبدع، بمعنى ليست كالبيوت السكنية، التي ينشد فيها الساكن هدوءاً وراحة معينة، وإنما هي مجرد أماكن، يتم اختيارها عشوائياً، وقد تتطور علاقة المبدع بها، وتصبح سكناً دائماً لكتابته، وقد تنتهي سريعاً، ويبحث المبدع عن مأوى آخر، ومسألة أن يذكر في سيرة كاتب ما، إنه يسافر من بلاده في أوروبا إلى افريقيا للإقامة والكتابة هناك، ولا يعود إلا بعد أن ينتهي كتابه، ليست مسألة حاسمة في جذب الإبداع، فافريقيا ليست بلاداً مستقرة في الغالب، ولا أعتقد أن فيها إيحاءات قوية، تتفوق على الإيحاءات الغربية، إنما هي مصادفة أن كاتباً ما، زار بلداً افريقيا مرة بغرض السياحة والاستكشاف، وقرر في ما بعد أن يجعل ذلك البلد مأوى موسمياً لإبداعه.

كذلك المقاهي، وهي أكثر الأماكن احتمالاً لنزوات الكتابة، ودائماً ما تجد مبدعين، يختارون طاولات معينة في مقاهي معروفة أو مغمورة، في بلادهم. ويجلسون بالساعات، لا يهم الضجيج والثرثرة، وصياحات لاعبي النرد، الذين يجلسون هناك بأريحية تامة، ولا يعتقدون أن هناك من يحتلب الأفكار من عقله، ويسلسل الوقائع ويبني شخصيات داخل نص روائي.

وفي هذا السياق قد يتعرف أحد رواد المقهى على الكاتب، ويقطع عليه خلوته بالجلوس إلى طاولته، وقد يشتت ذهنه بالحديث عن أعمال له، لم يقرأها أصلاً، وطبعاً سيطالبه بابتسامة عريضة لتظهر في صفحة ما، على وسائل التواصل الاجتماعي، أو يذهب تاركاً ثمن قهوته معلقاً في رقبة الكاتب. الشخص المتطفل هنا لا يعرف أهمية أن تكتب، وأهمية أن تمتلك خصوصية تكتب فيها، هو يتبع قانون المقهى الذي لا يعرف مثل تلك الخصوصية، ويحاول البعض من عشق غير معروف الأسباب، جعله مكاناً ذا خصوصية.

قبل سنوات طويلة، وبمصادفة بحتة، اتخذت موقعاً كهذا، في الدوحة حيث أقيم، مكانا في بهو فندق متوسط، فيه قهوة وإنترنت ولا خصوصية على الإطلاق، كنت أحضر مؤتمراً علمياً فيه مرة، ثم علق في ذهني، ولا أعرف حتى الآن لماذا؟ فلو قيم كمتكئ للإلهام، وملاذ للعزلة لما حاز أي تقييم، هناك رواد دائمون ومسافرون عابرون، وندل يروحون ويجيئون، وواحدة شقراء من يوغسلافيا السابقة، تعزف على البيانو يومياً، في ساعات جلوسي للكتابة، وموسيقي شاب يعزف الناي بألحان عذبة، يأتي أيضاً، ثمة حالمون بالثراء ليجلسوا مترقبين صفقات قد يعقدونها مع تجار قادمين من بعيد، وفي الغالب تبرد القهوة في أكوابهم ولا يحصدون شيئاً.

أنا أجلس، وأنعزل ذهنياً عمّا حولي، أرد السلام إن سلم عليّ أحد، وأحس بالضيق فعلاً إن جلس معي أحد أعرفه أو لا أعرفه، وأنا في قمة الكتابة، وكنت مرة أكتب شيئاً عن بطلتي الفرنسية: كاتيا كادويلي، في رواية لي اسمها «العطر الفرنسي» أظنه شيئاً متخيلاً عن ماضيها في فرنسا قبل أن أجرها إلى حي غائب الشعبي الهامشي، في الرواية، حين جاء عازف الناي الذي لا أعرفه ولا يعرفني، جلس بلا دعوة، وصاح بالنادل أن يأتي بقهوته هنا على هذه الطاولة، قال:

أريدك أن تسمع هذا اللحن لفيروز.

وقبل أن أرد أو أحصل على فرصة، لإنهاء ما أردت كتابته عن الفرنسية، أخرج العازف نايه من علبته الخاصة، وأسمعني لحناً لفيروز لا أذكره الآن. لا أنكر أنني طربت فعلاً، وتمنيت أن يستمر في العزف بلا توقف، بالمقابل ضاع المقطع الذي كنت أكتبه، ولم يأت مرة أخرى، لكن الرجل أنهى معزوفته، وحمل نايه وقهوته إلى الطاولة البعيدة التي اعتاد الجلوس عليها وحده، فلم أشاهد أحداً يجلس معه أبداً، طوال عدة سنوات، كما أنني لا أعرف اسمه، ولست واثقاً إن كان يعرف اسمي أم لا؟ كان يأتي ليجلس معي في أوقات كثيرة، يعزف ألحانه ويمضي، ولم يسألني أبداً عن صنعتي، وماذا أفعل بذلك الكومبيوتر المفتوح دائماً. عازف الناي هذا، اختفى، ربما استغرق الأمر عامين حتى تجرأت على السؤال عنه، والحقيقة كان السؤال صعباً، لأنه لا اسم للرجل لديّ، ولا أعرف إن كان معروفاً أم مجرد شاب موهوب، بلا مستقبل حقيقي، يتنفس بالعزف للغرباء، لكن عاملاً آسيوياً في الفندق كان يعرف شيئاً، أخبرني بأن الرجل توفي في مصح عقلي في بلد سافر للعلاج فيه.

إنها لغة الأماكن الضاجة، الأماكن التي نختارها لنحاول الكتابة فيها، بلا أي جذب كما قلت، ونلتقي فيها بالكتابة فعلاً، رغم عدم الخصوصية، ونلتقي أيضاً بأشخاص لن يكونوا محوراً في حياتنا، لكن مجرد أشخاص يظهرون ويختفون. وهذا ما حدث لعازف الناي، وللفتاة اليوغسلافية التي اختفت أيضاً، ولواحد من الذين يجلسون بلا هدف واضح، واتضح في ما بعد أنه محتال يتصيد الفرائس، والغريب أنه لم يصطد فريسة أبداً أثناء رؤيتي له في الركن. فقط أراد التعرف إليّ، ولم أمنحه فرصة ليحولني إلى ضحية.

كاتب سوداني

Exit mobile version