ذكريات من الماضي الجميل

إسماعيل الموسى.. حين تصبح الروح ملعباً للبطولة

عبد الكريم البليخ

وُلد إسماعيل الموسى عام 1958 في الرقة، مدينة الصمت القديم والحكايات الغارقة في رمال الأمل. في حاراتها الطينية، الموشاة برائحة الخبز وصوت المؤذنين، ترعرع طفل نحيل الجسد، لكنه ممتلئ بطاقة لا تعرف الانحناء. ما بين مقاعد مدرسة “عدنان المالكي” وساحات بيع الخضار المتربة، نمت في داخله بذور البطولة بصمت، دون أن يدري أحد أن هذا البائع الصغير الذي يدفع عربة يدوية ثقيلة سيسابق الريح يوماً ما، ويتخطى ارتفاعات لم يكن يتخيلها إلا في أحلامه.

الرقة لم تكن فقط فضاءً جغرافياً، بل كانت مدرسة حياة، تُعلّم أبناءها أن يحفروا مساراتهم بأظافرهم، أن يبنوا من الحجارة المتناثرة في الطرقات سلّماً يصعدون به إلى المجد. إسماعيل كان أحد أولئك، نشأ في بيت لا يملك الكثير سوى الكرامة، والأحلام التي تُخبَّأ تحت الوسائد. كان الفقر قاسياً، لكنّه لم يكن عاراً في حياته، بل كان وقوداً لصناعة الذات، ومنظوراً جديداً لمعنى النبل والكفاح.

في أحد أيام عام 1971، وأثناء بطولة مدرسية لكرة القدم، التقطت عينه الأولى أنفاس الضوء، حين لمح الأستاذ أسعد الأسود في عينيه بريقاً غير عادي. رأى فيه موهبةً لم تُصقل بعد، لكنه آمن بها. ومنذ تلك اللحظة، بدأت الرحلة. من فئة الأشبال في نادي الشباب، انطلق إسماعيل كمن يركض خلف نبوءته، يزرع خطواته على العشب كما تُزرع القصائد في دفتر عاشق. كان يركض، لا لينجو من شيء، بل ليصل إلى ذاته، إلى ذلك الصدى الداخلي الذي يقول له: أنت وُلدت لتكون أسرع، أعلى، أقوى.

البطل إسماعيل الموسى

لم يكن ملعب الوثب العالي مجرد مساحة رياضية بالنسبة له، بل كان مختبراً للحرية. هناك، حيث اعتاد أن يحمل الفرشات للبطل سمير إسماعيل، تعلّم معنى التواضع، ثم تجاوز التواضع ليصنع المجد. حين قفز لأول مرة وتجاوز 175 سم، لم يكن فقط قد تخطى رقماً، بل تخطى صورة الآخر التي سكنته طويلاً، وبدأ ينحت صورته الخاصة، بعرقه، وصبره، وجموحه.

في عام واحد فقط، استطاع أن يخرق جدار الصوت الذي يُحاصر المغمورين، فحطّم الرقم السوري للوثب العالي، وتجاوز 180 سم، ثم 190، وكأن الهواء صار حليفه، والسماء لم تعد سقفاً بل بداية الطريق. كُرّمت قدماه بالضوء، حين دعاه منتخب سورية للمشاركة في مهرجان الشباب العربي، وفي كل بطولة كان يتقدم، كأن جسده يختزن شوق المدينة كلها، شوق الرقة لأن تُسمَع، لأن يُعرَف اسمها من خلال أبنائها، لا من خلال نكباتها.

لكن الرياضة عند إسماعيل لم تكن غاية في ذاتها، بل كانت لغةً للتعبير عن وجوده، عن طاقته الجارفة التي لا تقبل الحواجز. لم يكتفِ بالوثب العالي، فدخل عالم السرعة. سباقات 100م و200م، ثم 400م، كانت مسارح جديدة لموهبة فذّة. هناك، في تلك الحلبات، رسم توقيعه الأوضح. حين كسر حاجز الـ 10.56 ثانية في سباق 100 متر، كتب نفسه في دفتر الأرقام السورية كرقم لا يُنسى. وفي إيطاليا، ضمن بطولة العالم العسكرية، أثبت أن البطل لا يحتاج سوى فرصة لينفجر، فانتزع المركز الأول بجدارة.

ولم يكن النجاح فقط في تحطيم الأرقام، بل في تلك الكاريزما الصامتة التي أحاطت بشخصيته. إسماعيل لم يكن رياضياً فحسب، بل كان نموذجاً للإنسان العصامي، الذي يصعد من العتمة دون أن ينسى الظلال، دون أن يتنكّر للماضي. لم ينسَ فرشاته الإسفنجية، ولا عربته اليدوية، ولا عيون أمه التي كانت تتابعه كل صباح وهو ينطلق إلى ملعب الحياة.

إسماعيل الموسى متوجاً ببطولة سوريا مسافة الـ 100 متر

حين تراه في صوره القديمة، بشارب خفيف وابتسامة خجولة، تشعر أنه لم يكن يتنافس مع الآخرين بقدر ما كان يتنافس مع فكرة القهر، مع تلك الطفولة التي أراد لها أن تكون نقطة انطلاق لا نقطة نهاية. في كل إنجاز، كان يقول: أنا ابن الرقة، الرقة التي تعرف كيف تبتسم رغم الجراح، وتعلّم أبناءها كيف يصبحون أبطالاً رغم شظف العيش

المدينة التي كان يركض في شوارعها الرملية ذات يوم، والتي كانت تحتفي بأهدافه في بطولات المدارس، باتت اليوم تروي حكايته للأجيال. إسماعيل الموسى لم يكن مجرد عداء، بل كان سيرة تُروى، ومرآة لزمن كانت فيه البطولة تعني النُبل، والنجاح يعني الكدّ، والمجد لا يأتي إلا من أبواب التعب.

بعد سنوات المجد، ترك إسماعيل الملاعب، لكنه لم يترك ميادين العمل. حصل على شهادة الثانوية، ثم دبلوم استصلاح الأراضي، وعمل بثبات في مصنع مسبق الصنع، كما لو أن جسده لم يتعوّد على الركون. وبعد 13 عاماً، انتقل إلى مجال المقاولات، ليبني بالحجر ما بناه في شبابه بالركض والقفز. متزوج، وله ثلاثة أبناء، ربّاهم كما ربّى موهبته، بالحب، والانضباط، والإيمان بالمستقبل.

تُوّج كأحسن رياضي سوري عام 1984، في لحظة كان فيها في قمة عطاءه، وكان ذلك التكريم بمثابة تصديق نهائي على أن من يحمل الحلم في قلبه يستطيع أن يصل، حتى لو بدأ من تحت الصفر… ولا ننسى أن اللاعب النجم إسماعيل الموسى كان من أميز من لعب كرة القدم في نادي الشباب وفي الرقة بصورة عامة.

اليوم، حين يُذكر اسم إسماعيل الموسى، لا يُقال فقط بطل رياضي، بل يُقال “ذاك الذي علّمنا أن الصبر يمكن أن يهزم الجاذبية”، “ذاك الذي رفع رأس الرقة عالياً، وهو يطير فوق الحواجز، بينما قدماه تمسكان بجذور الأرض”.

في زمن صار فيه البريق مؤقتاً، تظل سيرة إسماعيل الموسى بريقاً ثابتاً، لا يخفت. بريق رجل عرف من أين يبدأ، فبلغ حيث لم يتوقعه أحد، وصار قدوة، لا بصوته، بل بأفعاله. وكأنما حياته كلها كانت سباقاً واحداً، طويلاً، صعباً، لكنه أنهى الشوط الأول منه بنجاح، ليبدأ الشوط الثاني، في سكون الراحة، وهدوء الرجولة المكتملة.

25/4/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى