موسيقى

صوتها يعلو على صوت الميكروفون

الحبيب الأسود

يروى أن كوكب الشرق أم كلثوم قدمت في إحدى حفلاتها في العام 1928، أغنيتها الشهيرة “لو كنت أسامح” كلمات أحمد رامي وألحان محمد القصبجي، وبينما كانت في أوج الاندماج والتجلي وهي تردد المقاطع الطربية، توقف صوت الميكروفون دون أن يؤثر على مستوى صوتها وقدرته على الوصول إلى الجمهور. وبعد الانتهاء من الأغنية توقف الحفل ربع ساعة لإصلاح العطب التقني، لكن المفاجأة التي لم يتوقعها المشرفون على الحفل هي أن الميكروفون كان في حالة جيدة والكهرباء لم تنقطع.

وخلال اجتماع عقده مدير مسرح الأزبكية بمساعديه، تم التوصل إلى أن السبب الحقيقي في تعطل الميكروفون هو القوة الطاغية لصوت أم كلثوم، ليتم منذ ذلك الوقت اتخاذ قرار بعدم وضع ميكروفون أمام أم كلثوم كما يحدث عادة مع بقية الفنانين على المسرح، وإنما تعليقه في أعلى المسرح ليبقى بعيدا عنها حتى لا يحترق من جديد، وهو ما تواصل التعامل به حتى آخر حفل لها في مارس 1973.

المؤكد والذي لا يقبل التشكيك فيه، أن أم كلثوم كانت تمتلك صوتاً أنثوياً ولكن بمحرك رجالي، وهو يعطيه تلك القوة الرهيبة التي لم تتكرر في أيّ صوت آخر. بحسب الملحن الراحل حلمي بكر، فإن صوتها كان يتميز بأنه يعلو على 2 تون، والتون الواحد 8 مقامات، بما يعنى أن صوتها 16 مقاماً، بل يزيد على هذا، وهذه درجة لم تصل إليها امرأة من قبلها، وبعد أن تقدمت فى العمر، انقلب صوتها في حديثها العادي إلى طبيعة ذكورية، وعلى الرغم من هذا كانت تستطيع أن تغنى بجرس رنان في الآذان وهذا هو الإعجاز.

كذلك فإن صوتها كان يحتوى على 3 أنواع من الصوت النسائى، (الغليظ ألترو)، والمتوسط (ميتزو سبرانو)، والرفيع (سبرانو). وإذا كان كل إنسان لديه حبلان صوتيان وطول كل حبل من 17 إلى 22 مم، فإن أحبالها الصوتية من أطول هذه الأنواع، كما أن لصوتها مرونة خاصة قادرة على التنقل بين هذه الأنواع الثلاثة بسلاسة.

ويؤكد خبير الأصوات طه محمد عبدالوهاب أن الأمر لا يقتصر على قوة صوت أم كلثوم فحسب، بل كانت تمتلك حرفية متقنة في الغناء وقدرة عالية على التنقل بين المقامات الموسيقية ببراعة وسلاسة، فقد كانت تتحول من مقام إلى آخر دون عناء أو خلل، وتعرف بالدقة التامة ماذا تريد من كل مقام وكيف تبرز قدراتها الصوتية.

وكان موسيقار الجيلين محمد عبدالوهاب يقول إن لدى أم كلثوم “صوتاً قوياً، فيه رعشة سريعة، وعندها إحساس قوي. وصوتها فيه زعامة. تمشي كأنها تأمرك، وأنت لا تعصي لها أمراً. ثم إن صوتها فصيح مبين. تستطيع أن تمسك ورقاً وقلماً وتكتب كل كلمة تقولها. وأم كلثوم قادرة على إسكات جمهورها، لأنه لا يريد أن يفوته أيّ معني وأيّ لحن وأيّ أداء. أي لا يريد أن يفوته شيء جميل. صوت أم كلثوم له مزايا عشر مطربات، أو عشرين مطربة معاً. ولذلك، فالله قد أعطاها صفات نادرة”.

كانت حنجرة أم كلثوم تنتج اثنين أكتاف، كل واحد أكتاف، معناه مساحة صوتية من 8 درجات نغمية، وكان صوتها يصل إلى 16 ألف ذبذبة في الثانية، وهو ما لم يتحقق لأيّ صوت نسائي آخر في العالم، بل أن أقوى صوت أوبيرالي مثلاً كان لمغنية أوبرا عالمية اسمها ماريا كالاس، ولم يتجاوز 9000 ذبذبة ولفترة قليلة.

عظمة أم كلثوم أن قوة الصوت عندها التقت مع حدة الذكاء وقوة الحضور وعبقرية التخطيط والإصرار على التعلم والمعرفة وتطوير الذات والتأثير في المجتمع الذي تنتمي إليه لتتجاوزه إلى أمّة بأكملها كانت ترى فيها عنواناً لوحدة وجدانها وأصالة ثقافتها وعدالة مواقفها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى