تنبع الكلمات من أعماق الروح، مثل نهرٍ لا يعرفُ التوقف، يحمل في جريانه اعترافات تتأرجح بين البوح والصمت، بين الصخب والهدوء، وبين الماضي الذي يزهر فيه الشعر، والحاضر الذي يتطلب الصدق مع الذات. في هذا النص، يعانق الشاعر إبراهيم النمر مفرداته بروح شجية، مستعرضاُ حكايته مع الملهمات، تلك الأرواح التي صاغت قصائده وأنارت دروبه في الأدب والحياة.
يتحدث النمر عن الشعر، ذلك “القنديل الأخضر” كما وصفه نزار قباني، ويمزج بين العاطفة والإبداع، بين الواقع والتأمل، ليقدم صورة عن مسيرة الشاعر التي تبدأ بالصخب الجريء وتنضج مع التأمل العميق. من الرّقة والفرات إلى الغزالات المبدعات، ومن النقد إلى المقارنة بين الشِعر والشَعر، تتجلى رحلته في عالمٍ من الجمال، حيث الكلمات ليست مجرد تعبير، بل نبضٌ يتردد صداه في كل روح تقرأ.
هنا، تتماهى المشاعر مع الحروف، لتصنع نصاً يعبّر عن مكنونات الذات، ويشعل شموع التأمل في طريق الشعراء والقرّاء على حدٍ سواء.
المزمار
…
إبراهيم النمر
(1)
لستُ أدري الدوافع التي دفعتني لاختيار هذه الكلمة المفردة التي ينطوي تحتها وفوقها ألف استفسار، عنواناً لمادة أكتبها الآن وأنا بكامل براءتي وصدق مشاعري.
لست أدري بالضبط الموقع الأنسب لمفردة تصلح لأشياء وأشياء…
ربما هي في التحقيق مقتلة، وفي العمل إشارة إلى تقصير، وفي الكتابة نقل مشاعر فيّاضة ناء القلب بحملها فأسرع بالاعتراف.
ما يعنيني من عنواني هو العلاقة بين هذه المفردة الصارخة وبين الشعر.
ما يعنيني هو الحديث عن الملهمات ودورهن الكبير في تجميل وجه القصائد، ورشّ العطور على أجساد الكلمات لتُصبح بطعم الكيوي وبنكهة حبّ الهال.
ما يعنيني أن تساهم هذه الغزالات المبدعات في جعل الشاعر أكثر جنوناً، وبالتالي أكثر إبداعاً.
أعترف بأني لم أكتفِ بملهمة واحدة؛ فملهماتي أكثر وأكبر من أن يُحصين.
الرّقة الحبيبة، مدينتي ومُلهمتي، هي التي ألبستني ثوب الشعر وأحسنت تطريزه وزركشته، فكان ما كان من تبادل نظرات ودمعات وقُبل.
الفرات العذب، الذي تحمّل مُشاغباتنا وطفولتنا العابثة وثقل دمنا، ونحن لا نترك له فرصة للشوق لأن حضورنا يوميٌّ وغيابنا نادر.
الأصدقاء الأنقياء، الذين شكّلوا معنا ولنا حقول خضرة، وكانوا يتابعون إبداعاتنا بكل شغف، ويتجرؤون على نقد قصائدنا حتى تستقيم.
أسرتي العزيزة، التي صبرت على تهوّري وصخبي ونزقي، الذي كاد أن يكون بركاناً ناشطاً في أغلب الأوقات.
وأخيراً، الغزالات المبدعات، اللواتي يدخلن مدينة الشعر بكامل بهائهن، وكأنهنّ معنيّات بالقصيدة.
لن أسترسل في تعداد مُلهماتي والثناء عليهن؛ فهنّ رأس مال القصيدة، وهنّ خبزها وماؤها وهواؤها العليل.
وأختم ببيت حفظته للشاعر المرحوم وجيه البارودي يقول فيه:
لكل فاتنةٍ سحرٌ وإغراءُ
فلا تنوب عن السمراء شقراءُ
دمتم بخير، وهذه أول اعترافاتي.
(2)
تأتي القصيدة على جنح طائر، ويأتي معها الفرح والسعادة، فتورق الحروف وتطلق سهام إبداعها كأنها صيّاد ماهر.
من لم يفرح بولادة قصائده ليس شاعراً، ومن لم تلهمه ملهمة مدهشة ليس شاعراً، ومن حدّث أنثى عن مشاعره وشاركته المشاعر ولم يكتب لها شعراً، فهو بارد وبليد ومتجمّد.
الأنثى زاد الشعر، وقوام قوافيه وموسيقاه.
الأنثى سرّ السعادة لمن خبر أشواقها، وتعلّم أبجدية التعامل الأنيس معها، وشكّلها وردة في بستانه، ودمعة في عيونه، وبسمة على شفتيه.
المرأة هي حياة الشعر وأكسيره. بحوره وقوافيه، أشكاله المختلفة وصيغته الخالدة.
أذكر أنني قلت ذات يوم في لقاء صحفي أجراه صديق عزيز:
“المرأة نصف عيوننا ونصف برتقالتنا… من لم يكتب للمرأة ليس شاعراً، وإنْ أهداه المتنبي ديوانه”.
هي مقدمة اعترافات جعلتها تمهيداً لمقطوعة شعرية كتبتها البارحة على جناح وردة، وخفتُ أن تفرّ من بين يدي قبل أن أنقلها بأمانة إليكم:
ظننتُكِ أنثى وما خاب ظنّي
كأنكِ أنثى حريرِ التمنّي
فلا تبعدي عن فؤادِ مُحبٍّ
ولا تمنعي القلب من أن يُغنّي
فأنتِ التي عطرها مغربيٌّ
تنقّل بين رُباكِ وبيني
أحبكِ أنتِ الوداعةُ لمّا
يفيض هواكِ ليغسل حُزني.
(3)
حين أسمع هسيس كلماتها كجدول، وتداهمني صباحاتها الملوّنة كالمناديل المعطّرة، أكتشف أن الكون كله ضاحك مستبشر. وحين تغيب رائحة أنوثتها دقائق معدودات، أرى أن الحياة تسلبني شيئاً ثميناً، غالياً، ونفيساً.
هي وطني في غربتي، ونافذتي في غرفتي، ودمي في شراييني، ودمعتي في عيوني، وحلمي حين نومي، وسعادتي في صباحي، وهدوئي في مسائي.
هي كل الأشياء معاً… وأنا، المولع بالحسن، أنهض كطائر ملوّن الجناح خبّأ في منقاره وردةً حمراء.
بدأت حكايتي حين حكم الشّعر عليّ بالعشق!
طاوعته، فكانت القصيدة قاب قوسين من الإبداع، وكنت كمن يغرف بيمناه ماء الفرات، فيتحول الماء إلى غزالة.
بدأت حكايتي حين سرق مني الجسر القديم صباحاتي، وأحالني طيراً في سماء النقاء. ورحت أهذي بالشّعر، أساور محبتي الفضية من مائه، ودمعتي من مائه، وفرحي من ندى موجاته.
كانت للنهر حكايات خبّأتها مساءاتنا العابقة بالفن والشعر والحكايا.
كان الأصدقاء المميزون يتجاذبون أطراف الشعر المؤنسة، وكان للفن التشكيلي حضوره الفريد.
أعود الآن فارغ الحلم، بارد الكلمات، موجوع الدمعة، وأنا أتذكرهم واحداً واحداً.
خطف الموت منهم من خطف، وجرّع السفر والهجرة والغياب المُر من جرّع.
وصارت مساءات النهر موجعة، باردة، وصرتُ، وأنا بكامل براءتي، أسير الشوق لأيام قتلها الغياب، وكسرت أجنحتها عجلة الموت المرعبة.
على نهر الفرات أذبتُ روحي
كما ذابت شموعٌ في الظلامِ
شراييني على الشطّين وردٌ
وأوردتي سلالٌ من غرامِ
أجمّع من ضفاف النهر لحمي
وأجعلُ من حوائجه عظامي
كأني صغتُ من جسدي فراتاً
وهذا الماء يجري بانتظامِ
(4)
لم أدرِ كيف ساقتني عباراتي إلى الحديث عن شيئين لا يربط بينهما أي رابط.
فالشِّعر لغة شفافة مدهشة، تنقلنا من بديع إلى أبدع، ومن قارة إلى أخرى بجناحين من ألق وفن وموسيقى وعذوبة.
والشِّعر الذي لا يرتقي ليصبح حديثاً على الألسن، أو فكرة جديدة ومفيدة نحتاجها للاستشهاد، لا يُعد شعراً.
لكنني، ذات جنون، عاينتُ سيرة الشِّعر، وعلمتُ أن الشاعر في بداياته جريء، متدفق، لا يأبه بما يقال عن قصائده، ولا يلتفت إلى رأي النقاد.
يرى أن شعره أكبر من النقد والمدارس النقدية، وأكبر حتى من محمود درويش والسيّاب ونزار قباني.
وعندما ينعم الشاعر بالرَّوية والحسّ النقدي الناضج، يبدأ بقصّ أجنحة قصائده، لتخليصها من التطويل الممل والرتابة القاتلة.
ويفعل بالقصيدة ما فعله زهير بن أبي سلمى، الذي عاين قصيدته عاماً قبل أن يطلقها، وقبل أن يضع شرايينها في قبضة النقاد والمتابعين.
وهذا ما أعادني إلى المقارنة بين الشِّعر والشَّعر.
فالشاب العشريني في شَعره يشبه الشاعر العشريني في شِعره:
شعر أسود طويل، قوي، مظهره يشبه إلى حدّ بعيد ليلاً دامساً بكثافته المعهودة، لا يُلقي بالاً لمن يكيل له سيول النقد، ولا يلتفت إلى أنهار المعارضة التي لا تعجبه غالباً.
وحين يُداهمه الشيب على حين غفلة، ويزرع الأقمار في ليل شعره، كما غنّى الغزالي رحمه الله، يبدأ رحلة البحث عن مثبتات للشَّعر تخفي صلعاً جائراً.
يرى حينها أن الشيب ليس وقاراً في يوم من الأيام، ويتمنى لو يعود شَعره إلى سواده وكثافته بعيداً عن الوقار وأهله.
أعود إلى الشِّعر، الذي يقول عنه نزار قباني إنه قنديل أخضر، وأحييه وأرحّب به:
شاباً عشرينياً ورجلاً ستينياً
بنزق الشباب وأناة الرجال
بصخبه وهدوئه
بتدفّقه كشلال وانسيابه كجدول
بصوره الغارقة في الغزل
وعفّته التي تناسب عمر شاعره
فيا مرحباً بالشِّعر والشَّعر أسودٌ
ويا ألف أهلاً بالوقار من القصيدِ
ويا فرحتي بالشِّعر ضيفٌ مقرّبٌ
ويا فرحتي بالشِّعر دون حدودِ
شاعر سوري مقيم في تركيا