التحكيم السوري.. صافرة للبيع وفساد مستمر!


عبد الكريم البليخ

في عالم الرياضة، يُعَد التحكيم ركيزة أساسية لضمان العدالة وتكافؤ الفرص بين الفرق، إلا أن الواقع في سوريا يكشف عن صورة قاتمة تعكس أزمات عميقة، تتجاوز الأخطاء البشرية العادية إلى مستويات من الفساد، التهديد، والضغوط السياسية التي تهدد جوهر كرة القدم نفسها.
يدرك الجميع أنَّ الكمال أمر مستحيل، ولكن هذا لا يعني القبول بحالة من التدهور المستمر في التحكيم السوري، حيث تتحول الصافرة إلى أداة في يد المصالح والضغوط، في مشهد يعكس ليس فقط ضعف المنظومة التحكيمية، بل هشاشة النظام الرياضي بأكمله. وبينما تتوالى الأخطاء، يبقى السؤال الأهم: هل المشكلة في الحكام أنفسهم، أم في البيئة التي تحيط بهم وتجبرهم على خيارات لا تمت للرياضة بصلة؟
أهم عناصر التحكيم الناجح هو الثقة، لكن في سوريا، هذه الثقة تكاد تكون معدومة، ليس فقط بين الجماهير والحكام، بل حتى بين الحكام واتحاد الكرة نفسه. في الوقت الذي يُزَجُّ فيه بحكامٍ غير مؤهلين في مباريات حاسمة، يُترك الحكم وحده في مواجهة الآلاف من الجماهير الغاضبة، والمدربين والإداريين الذين يعتبرون الفوز هدفاً مقدساً، مهما كانت الوسائل المستخدمة لتحقيقه.
الحكم مطالب بإدارة 22 لاعباً لكل منهم مزاجه وتكتيكه، لكنه أيضاً مطالب بإرضاء إداريين لا يعترفون بالحياد، وجماهير ترى في كل قرار تحكيمي مؤامرة محتملة. في ظل هذه الأجواء، تصبح الأخطاء التحكيمية أمراً متوقعاً، بل حتمياً، عندما يكون الحكم نفسه مهدداً في حال اتخاذ قرار لا يتماشى مع إرادة أصحاب النفوذ.
في بيئة تعاني من الفساد المؤسسي، يصبح التحكيم جزءاً من منظومة أوسع تدير الرياضة بمنطق النفوذ والمال، وليس القانون والعدالة. لعل المثال الأبرز هو ما حدث في بعض المباريات المصيرية التي تم فيها فرض نتائج معينة بضغط مباشر من مسؤولين وأصحاب مصالح، دون أي اعتبار لنزاهة اللعبة أو لمصير الفرق المتضررة.

أجور الحكام في سوريا ليست سوى نموذج لهذا الإهمال المتعمّد. فالحكم الدولي، المسؤول عن إدارة مباراة في الدوري الممتاز، لا يتجاوز أجره 12 دولاراً، وهو مبلغ لا يغطي حتى تكاليف السفر والطعام، فضلاً عن كونه لا يتناسب بأي شكل مع حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. في المقابل، يتعرض هؤلاء الحكام لضغوط هائلة، تصل إلى حد التهديد المباشر، كما حدث في مباراة القرداحة وشباب الرّقة، حينما طلب رئيس النادي بشكل علني من الحكم احتساب ركلة جزاء لفريقه، ثم وجه تهديداً صريحاً لطاقم التحكيم في حال لم تتم الاستجابة لأوامره.
إن هذه البيئة المسمومة تجعل من الفساد خياراً منطقياً لبعض الحكام، عندما يصبح الراتب التافه مجرد غطاء شكلي لممارسات غير قانونية، تفرضها الظروف والضغوط المختلفة.
تكررت في السنوات الماضية حوادث الاعتداء على الحكام، سواء بالضرب المباشر أو بالتهديد العلني، دون أي تدخل فعلي من اتحاد الكرة لحمايتهم. في الأعوام الماضية تعرض أحد الحكام للاعتداء داخل غرفة الملابس بعد مباراة جمعت الوثبة وجبلة، وهو مشهد ليس استثنائياً، بل جزء من نمط متكرر يُواجهه الحكام السوريون.
في بعض الحالات، لم تكن التهديدات تأتي فقط من مسؤولي الأندية أو الجماهير، بل من شخصيات نافذة، كما حدث مع الحكام الدوليين المعروفين بالنزاهة الذي تعرض للإهانة من قبل فواز الأسد، ابن عم رئيس النظام المخلوع، الذي اعتبر أن الحكم “مشبوه سياسياَ”، وأنه سيتم “تربيته” لاحقاَ. مثل هذه الحوادث تُظهر أن التحكيم السوري ليس مجرد ضحية لأخطاء عادية، بل لهيمنة سياسية واقتصادية تجعل من الصافرة أداة طيّعة بيد المتنفّذين.
التحكيم السيئ لا يؤثر فقط على نتائج المباريات، بل يَضرب جوهر الرياضة نفسها. مع تكرار الفساد والتهديدات، تتآكل ثقة الجماهير في كرة القدم السورية، وتفقد الأندية فرص المنافسة العادلة، في حين يصبح الحكام مجرد أدوات تُستخدم لتحقيق نتائج محسومة مسبقاً.
إذا كان هناك أمل في إصلاح التحكيم السوري، فإنه يبدأ بإجراءات جذرية، تشمل تحسين أجور الحكام، تأمين حمايتهم من التهديدات، وإخراج التحكيم من دائرة النفوذ السياسي والمالي. فبدون هذه الإصلاحات، ستظل صافرة الحكم السوري ترن كرمز للفوضى، وليس للعدالة.
إنّ حماية الحكام ليست مجرد مطلب شخصي لهم، بل ضرورة لإنقاذ كرة القدم السورية من السقوط الحر. الكرة الآن في ملعب اتحاد الكرة والمسؤولين الرياضيين، فإما أن يتحركوا لإنقاذ ما تبقى من النزاهة، أو أن يستمروا في دفن رؤوسهم في الرمال، بينما تتهاوى رياضة البلاد أكثر فأكثر نحو الهاوية.