باليت المزمار

الجمال يكمن في قدح قهوة

ستار كاووش

للقهوة جاذبية خاصة، سواء من ناحية طرق تحضيرها وأنواعها أو شربها، وكل شخص يحتسيها بطريقته وفي الأوقات التي تناسب حياته ويومياته ومزاجه. وهي، كأي شراب آخر، تخضع لبعض التأثيرات والعوامل مثل ثقافة الناس وحتى البلدان، فمنهم من يضيف لها السكر، وآخر يخلطها بالحليب، بينما الغالبية تحتسيها مُرَّة دون أية إضافات.

بشكل شخصي، أحب القهوة دون إضافات، والأهم من ذلك أنني أبتعد، دون تردد، عن شربها في الأقداح البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد، حتى لو تطلب مني ذلك التخلي عنها خلال حفلة في الهواء الطلق أو في مناسبة معينة خارج البيت. وهذا ينطبق أيضاً على المشروبات الأخرى المختلفة، فأنا أشعر بأن طعم القهوة – وحتى النبيذ – يتغير في هذه الأقداح، ويبقى الزجاج وحده هو صاحب الكلمة. وأؤمن بأنه كلما كان شكل القدح جميلاً، أصبح طعم الشراب أكثر طيباً ونقاءً.

إن شكل القدح وتصميمه والمادة المصنوع منها لها تأثير كبير على طعم الشراب، بينما قدح البلاستيك يشبه ابتسامة مصطنعة، كأنه ازدراء لقيمة الشراب واستخفاف بنبل المتعة وعذوبة التذوق. وإن خيروني، على سبيل الفانتازيا، فربما سأتمنى شرب قهوتي بكأس أركسيلاوس التاريخي، المليء بالرسومات التي تعود إلى ألفين وخمسمائة سنة، والذي يُعتبر من أهم القطع الفنية عند الإغريق، أو أن أحتسيها في الإناء النذري الفريد الذي يعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة في الوركاء العراقية، ويُعد من أعظم ما أنجزته البشرية عبر تاريخها. لكني لن أغالي هكذا، وسأسعى دائماً لشرب قهوتي في قدح زجاجي أو حتى من السيراميك أو البورسلين، فهذا يضع كل شيء في مكانه الطبيعي والمستحق.

جميل أن تكون لديك طقوس شخصية تتعلق بحياتك أو نوع عملك. وقد اعتدتُ مثلاً، قبل توجهي إلى المرسم صباحاً، أن ألفَّ منديلي الملوَّن حول رقبتي، لإيماني بأنه سيجلب لي لوحات جميلة. ومثلما دأبتُ على حمل تفاحة أضعها على طاولة المرسم، فتبدو مثل قلب صغير ملوَّن، أو رمزاً مرادفاً للجمال والغواية والألفة، فأنا مغرمٌ بأقداح القهوة عموماً، بأشكالها وألوانها المتنوعة. وقد تعوَّدتُ على شرب الكثير منها بين أوقات الاستراحة من الرسم، والتركيز، أو الاستغراق في بعض الأفكار التي قد تسعفني في تغيير بعض تفاصيل لوحة ما، أو حتى إيجاد موضوعات مناسبة للكتابة. وعادةً ما أصحب قهوتي ببعض الكعك المحلي، الذي يسمى في هولندا “كعك الفطور”.

والذي تحايلتُ على اسمه وجعلته ملازماً لقهوتي في كل الأوقات. وفي أيام معينة، أتوجه إلى المتجر القريب من المرسم، الذي يكتظ بالعاديات، باحثاً عن أقداح ذات أشكال وألوان وأحجام غريبة، هكذا دون مناسبة، ولا حاجة لانتظار أن تُكسر الأقداح القديمة. لذا، تنوعت عندي الأقداح؛ فهناك أقداح بألوان زاهية ومشرقة أستعملها في الصباح، وأخرى ذات عروة كبيرة أمسكها بثبات وقت الظهيرة، فيما توجد أقداحٌ صقيلة وناعمة، تُثير عندي مشاعر ودودة، وهذه أستعملها في المساء. أما عند زيارة الأصدقاء لي، فأنا أستخدم أقداحاً متشابهة لنا جميعاً، حتى لا أبدو متميزاً أو مختلفاً عن الآخرين.

قبل أكثر من ثلاثين سنة، حين كنتُ في مدينة كييف، أرسل لي صديقي، فنان الكاريكاتير المذهل عبد الرحيم ياسر، رسالة من بغداد يخاطبني فيها: “هناك أقداح كثيرة ومختلفة لم تشرب بها بعد، لذا عليك الاعتناء بنفسك والتمهل في اندفاعاتك…” وكان محقاً، حيث صرتُ وقتها أتنقل بين المقاهي والحانات لأجرب أقداحها، ثم أجوب المتاحف متمعناً في الأقداح الفخارية القديمة التي صنعها الإغريق والرومان والعراقيون القدماء. كما كنتُ أقف أمام لوحات الرسم التي تركها لنا الفنانون الكبار، ومنهم رسامو هولندا الذين عكسوا الحياة اليومية قبل مئات السنين، متطلعاً إلى الفلاحين في لوحات بيتر برويغل وهم يجلبون أقداحهم وملاعقهم معهم عند الذهاب إلى أية دعوة أو حفلة أو مأدبة تُقام في القرية.

وأتذكر أيام أكاديمية الفنون الجميلة في بداية الثمانينيات، حين تخرَّجَ قبلنا الصديق الفنان قاسم سبتي وصار متعهداً لنادي ومطعم الأكاديمية. لم نأخذ على محمل الجد تعهده لنا بتوقف النادي عن استخدام الأقداح البلاستيكية، حتى فوجئنا في صباح اليوم التالي عند دخولنا الأكاديمية بالكثير من الإعلانات التي علقها على الأشجار والجدران، وقد كتب عليها ساخراً من شعارات تلك الفترة: “تسقط الأقداح البلاستيكية اللعينة، وتحيا الأقداح الزجاجية الجميلة!”

في النهاية، لا يمكنني الحديث عن القهوة دون استعادة تلك الظهيرة في أيامي الأولى بهولندا، حين كنتُ منشغلاً وقتها بتحضير القهوة، وسمعتُ جرس البيت. وحين فتحت الباب، رأيتُ امرأة جميلة متوسطة العمر، وبابتسامة طيبة، مدَّت نحوي قدحاً جميلاً مغلفاً بعناية، وقد طُبعت عليه صورة الملكة بياتريكس، ثم خاطبتني قائلة: “أنا أوزع هذه الأكواب كهدية للناس بمناسبة عيد ميلاد الملكة بياتريكس الذي يصادف اليوم، فهل تود أن تحصل على هذا القدح كتذكار؟” فقبلته منها بترحاب شديد، وما زال هذا القدح معي، أخرجه مرة واحدة في السنة، أملأه بالقهوة وأضعه على الطاولة كتحية لتلك الذكرى الجميلة.

ناقد وفنان تشكيلي عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى