عبد الحميد الخلف الإبراهيم
رأيتُها أوّلَ مرّةٍ في صباح يوم من أيّام الرّبيع، وهي في خريف العمر، تزحف نحو الثّمانين في أوائل الثّمانينيّات من القرن العشرين، لكنّي كنت أعرفها، قبل ذلك، من حديث جدّتي وأمّي وخالتي …
كانت ممرضةً تعمل في المركز الصحّي الذي كان مبنيّاً من الطّين في القسم الشّماليّ من القرية قبل ولادتي، وربّما قامت بعمل الأطباء في عصر خلا أو كاد من الأطبّاء.
عندما رأيتُها كانت تدبّ دون عصا تسحب قدميها سحباً على رصيف الشّارع المحاذي للمجمّع الحكومي في الرّقة باتّجاه الكنيسة، فشِقّـتُها كانت في المساكن التي تقبع إلى الشّمال من المجمّع الحكوميّ في الرّقّة.
قال لي قريبي الموظّف في ديوان المحافظة: هذه هي الميليا.
وتذكرت أقاصيصها …
واستوقفْناها للسّلام عليها، ثمّ تابعَتْ سَيْرَها ببطءٍ شديدٍ..
لم نكن أسرع منها كثيراً، فقريبي حسين الأعرج الشّيخ الموظّف في المجمّع الحكوميّ كان أعرج! ولعلها عالجتْهُ بنفسها في طفولته بحُقَن البنسلين التي كانت دواءِ كلِّ داء في النّصف الأوّل من القرن العشرين.
كان حسين قد شُفي من مَرض طفولته ذاك، وظلّ أعرج عَرَجاً شديداً، وكان مرضُه سبباً في تعلّم أمّه مهنة التّمريض فكانت تقوم بإعطاء الحقن البنسلينيّة لمرضى العائلة كما علّمتها الميليا.
في طفولتي كنْتُ أعاني من الرّمد الرّبيعي الذي كان يزورني كلّ ربيع أسبوعاً أو أسبوعين، فأستيقظُ من نومي مغمضَ العينين، حتى تقوم أمّي بفتح أجفاني المتلاصقة وغسلها.
عالجتني خالتي والدة حسين حينها وأنا في الثانيةَ عشرةَ من عُمُري بطحين البنسلين، ذرَّتْهُ في عَيْنيَّ مباشرةً، وما زلت أتذكر الألم الذي أحرقَ عينيّ، وكدت أقفز من هوله إلى السّقف، لولا أنّ أمّي كانت تمسكني بإحكام.
قال لي أحد الأطباء فيما بعد: احمدِ الله أنّك لم تفقد بصرَك بتأثير ذرّ البنسلين في عينيك! فحمدت الله على سلامة عينيًّ، وعلى تخلّص عينيّ من الرّمد الرّبيعيّ الذي لم يَعُدْ إليهما بعد البنسلين.
من أقاصيص الميليا، التي لا أعرف من أيّ مدينة هي في الأصل، ولا كيف سُمّيت الميليا، أكان ذلك اسمَها أم لقبَها؟ أنّها كانت تسكن في المركز الصّحيّ في القرية عَزْباء، وكان يعمل معها في المركز زميل لها عزَبٌ من دير الزور يُكنّى أبا صادق، كان يطلب يدَها للزواج بالرّغم من اختلاف الدّين، فهي مسيحيّة! ولم تكن تقبلُ يدَه، وربّما اضطُرت في بعض اللّيالي إلى الهرب خشية أبي صادق هذا، لتنام في بيت أخوالي مع أمّي، التي لم تكن أمّي في ذلك الحين، وكان المركز قريباً من بيت أخوالي الذين لم يكونوا أخوالي يوم ذاك.
تحوَّلَ المركزُ الصّحيّ في أيّام الوحدة، إلى مركز لمكافحة البلهارسيا، فانتقلت الميليا إلى الرّقّة، وقد رأيت في طفولتي مبنى المركز الصّحيّ الطّينيّ الصّغير قبل أن ينقرضَ، أو يتهدمَ، ثمّ يُلْحقَ ببيت من بيوت الجيران في منتصف السّتّينيات.
ومن حديث الذّكريات المحزنة التي تقبع في ذاكرتي منقولة أنّ أخي الأكبر خالد وقع عليه، كما عرفْتُ فيما بعد، برميلٌ ثقيلٌ في عبَثٍ من عبَث الصّبيان، قبل أكثر من نصف قرن، وقد أُسْعِفَ إلى المركز الصّحيّ لكنّ أحداً لم يستطع، مع الأسف، أن يفعل له شيئاً، فقد مات، رحمه الله.
قال لي حسين يوماً في عصر يوم من أيام رمضان في أوائل الثّمانينيّات: تعال نَزُرْ الميليا، وذهبنا إليها.
رحّبَتْ بنا، وجلسنا تحت صورةِ رجل معلّقة على الحائط.
لم تكن الميليا تعرفُني، فسألتْ حسيناً: من هذا الذي يرافقك يا حسين؟ فقال لها: إنه ابن المختار! ففرحت بي وسألتني: كيف حال أمّك يا بنيّ؟ وأضافت: كانت أمُّك صديقتي، ولم أرَها منذ زمن بعيد.
وسألتُها عن الصّورة المعلّقة فوقَنا: صورةُ من هذه؟ فقالت: إنّه زوجي أبو صادق رحمه الله!
كانت قد تزوّجت زميلها الدّيريّ المسلم أبا صادق، ولم يرزقْهما الله بصادق، ولكنّها ظلّت صادقةً، وفيّة له.
قالت لنا أمّ صادق: ستُفْطرون معي اليومَ فأنا صائمة مثلكم! وخرجنا، ثمّ عُدْنا عند غروب الشّمس، فتناولنا طعام الإفطار معها، وصليّت المغربَ في بيتها.
قالت لنا أمّ صادق: المستحيلات ثلاثةٌ الغولُ والعنقاءُ والخِلّ الوفيّ، لقد مات زوجي، ورحل كلُّ أقاربي إلى نيويورك، وهأنذا الآن وحيدةٌ في آخر العمر، أبحث عن خلٍّ وفيّ!
فقال لها حسين: أنا الخلّ الوفيّ، على أن أرثَ بيتَكِ هذا عندما ترحلين بعد عمر طويل، فوافقت، وضحكنا.
في ذلك العام 1982 / 1983 تقدّمتُ وحسيناً لمسابقة تعيين المدرّسين بالرّقّة بعد حصولنا على الإجازة الجامعيّة، وأجرينا مقابلة القبول في ثانوية المأمون بحلب، وكان الشّاعر سليمان العيسى من بين الذين اختبروا قسم اللّغة العربيّة، وظهرت النتائج فكنّا مقبولَيْنِ وجرى تعييننا مدرّسَيْنِ، ففرحنا واتّفقنا أن نعملَ معاً في مدرسة القرية، لكنّ الخِلّ الوفيّ ابنَ خالتي حسيناً لم يفِ بوعده!
كان حسين قد تحدّى عاهته، فاستعاض عن رِجْلِهِ لدى انتقاله من القرية إلى المدينة بدراجة عاديّة (بسكليت)، ومارس هواياته، سجّل في دورة لتعليم العزف على العود في المركز الثّقافيّ، واقتنى عوداً يدندن عليه (آيــا زين آيـــا زين أيــا زين العابدين) وكان إذا زار القرية يحمل عوده معه فيدندن لأبيه، رحمهما الله، فيضحك أبوه قائلاً (عوزك جتل يا حسين! أيليق بنا نحن الغناء والعزف؟!) فيرّد ملاطفاً أباه (يابــا ابن حمولة وخاس، خيسي بزرة).
وكان حسين جميل الوجه، وجد في الجميلات من تحبّه بالرّغم من عَرَجِهِ، وذات ليلةٍ ذهب يقابل حبيبته، يتّكئ على الحائط بدرّاجته يطرق نافذة بيتها في (زابوقة) مظلمة تؤدي إلى البيت، فتفتح له النّافذة فيتحدّثان ما استطاعا، وتنبّهت أمّها إلى ما يجري، فخرجت من باب آخر وجاءته من خلفه، فأعطته درساً جميلاً على الوجه الجميل.
واستطاع يوماً بالرّغم من عرجه وضعْفه، إغلاقَ مدينة الرّقّة، بل إغلاق دير الزّور أيضاً، في فترة الصّراع الذي احتدم بين الإخوان والسّلطة في الثّمانينات! كتَبَ منشوراتٍ بحجم الكفّ يدعو إلى إغلاق المدينة، كتَبَها بيده، ونسخَها بأوراق الكربون، أراني ورقة منها فيما بعد، قائلاً إنّه وجدها في السّوق! فقلت له ضاحكاً: إنّه خطّك الذي أعرفه يا حسين! فضحك وقال لي: اسكت!
نثَرَ حسينُ الأوراق ليلاً وهو على درّاجته في سوق الهال وشارع تل أبيض وشارع القوّتلي، يدعو فيها التّجار إلى الإضراب، وإلّا فإنّهم سيتعرّضون لما لا يَرْضون، وقد سقَطَتْ منه بطاقته الشّخصيّة (هويّته) في سوق الهال، فعثر عليها أحد العاملين في السّوق، وأرسلها مع (البوسطة الحمرا) إلى بيت المختار في قرية حمّام التّركمان، فقُمت بإعادتها إليه في الرّقّة مع كلماتٍ كتبتها له:
حافـظ على الهويّـــــــــة لأنـّهـا شــــخــصـــيّة
لأنّــهـــا في قُـطْــــــــــرِنا وثـيــقـةٌ ســـــــــــرّيّــة
إنّ سـرتَ يوماً دونهـا فلست من ســـوريّة
بل من بـــــــلاد فـارسٍ أو أنـت من تـركــيّة
فإنْ ســـــــئـــمــت مـــرّة فَــدونـــك الـعــجـــــيّــة
اشرب عليها (بطحة) وغـنِّ يــــا موليّـــــــــة
وقد أغلق التّجار محلّاتهم إلى منتصف النّهار، وفتحتْها الشّرطة عُنوة، ثمّ إنّ أهالي دير الزور سمعوا بذلك فقالوا: (الرّقّة الجايفة تسكّر وإحنا فِاتحين!!) فسكّروا يومين!
وبعد ذلك بعامين تلقّى العميد علي الدّربولي رئيس فرع الأمن السّياسيّ بالرّقة طلباً بإرسال حسين أعرج الشّيخ إلى فرع حلب، للتّحقيق معه في مزاعم الشّيوعيّين الرّقّيين المعتقلين من جماعة رياض التّرك بأنّه قام بضمّهم إلى ذلك القسم المنشقّ من الحزب الشّيوعيّ السّوريّ يوماً.
أصدرَ العميد أمراً مكتوباً بالقبض على حسين أعرج الشّيخ لإرساله إلى فرع حلب، وتلقى المساعد المكلّف بالتّنفيذ الأمر مغلقاً، فلمّا فتَحه، عاد إلى السّيّد العميد يسأله: هل أُحْضِر حسين أعرج الشيخ نفْسَه يا سيّدي؟
فردّ العميد: فوراً فوراً!
فتابع يسأله: هل أحضره من المقبرة يا سيّدي؟
فأردف العميد: ماذا تقول؟
فأجاب المساعدُ: لقد توفّي حسين أعرج الشّيخ منذ عامين!!
لقد رحل الخلّ الوفيّ قبل أن ترحل أمّ صادق!
توفّي في حادث سيْرٍ على الطّريق العامّ بين الرّقّة وحمّام التّركمان، عند قرى خنيز، كان على دراجته النّاريّة التي اقتناها تاركاً البسكليت، وصار يسافر بها من الرّقّة إلى القرية.
وكانت نهايتُه في يوم من أيّام العجاج، عجاج خنيز.
رحم الله الميليا وخِلّها الوفي.
شاعر وكاتب سوري