السطو على الماضي

محمد رضوان

إن السائر على طريق الحق له من الملامح الرطبة الكثير، منها بالتأكيد توقير الماضي وعدم غمطه، فهو يرسم صورة أيامه الغابرة على جدران بيضاء بكل جسارة وبلا خجل. لذا، فإن سيمفونياته غير ناقصة، وطريقه محدد بتذكرة مرور واحدة لا اثنتين، وحاضره ملموس بين يديه، ومستقبله أبلج بين عينيه، أما ماضيه فقد تربع على عرش قلبه، فازدان به حاضره وانجلى له مستقبله.
وعلى النقيض يكون المعتوه الذي يُحاول طمس الأيام الفائتة والتبرؤ من أخبارها وحكاياتها، بل وتبرئة صحيفته من كل ما هو قادم من خوالي الأيام وبعيدها، فيصير بزوغه هذا مزورًا، ولباقته كذوبة، والأرض مرتجة أسفل أقدامه. فهو يسعى لمحو التاريخ الغابر، العتيق منه والقريب، بيد أنه في الحقيقة يحاول محو ذاكرات الناس وعقولهم.
إن من يقتلع الماضي من حسابات الزمن واقع في غيهب الوهم، بعد أن استند باختيال على بواعث الحاضر، وبكل غرور وصلف ظن أنه قابضٌ على تلابيب الأمور وممسك بجُل موجباتها. وفي مسعاه هذا يحاول أن يُضفي الحبكة اللازمة كي يروق له هذا الحاضر المبتور ماضيه، فيظهر منه التصنُّع والتكلف والمسكنة.
إن هذا التاريخ الذي انقضى له رونق بهي من البساطة والسعة، حيث كان حُسن الأدب والتواضع ولين الجانب لا يُعرض المرء للاستخفاف وقلة المبالاة به. وكان للعلم والعلماء الشأن العظيم والكرامة الشماء، حينها كان الحديث صدقًا، والالتزام ثقةً، والحق طبعًا وسليقة.
وقد حرق نيرون روما كلما تراءت له تلكم الإساءات التي لاقاها من الناس وتعسفهم عليه في طفولته، ولم يكن يفكر حينها بمحاسن مدينته. فقد عاش يُمني النفس بالخلاص منها بعد أن قاسى الأمرين من أهلها وتهكمهم عليه، بالإضافة لنكرانهم للجميل. وهو ما لم يقدر نعيم القصر ورفاهيته أن يُنسياه مرارة الأذى الذي لاقاه. وكلما تذكر هؤلاء الذين قضوا على سعادته وأحلامه، تراءى له من خلفهم صواريخ الدخان ولهيب النار يشق عنان السماء، وقد أخبروه يومًا وهو إمبراطور أن عضوًا من مجلس الشيوخ (السيناتو) قد سبه وهجاه، فقال: “لا أصدق ذلك، فإني لا أذكر أني أطفأت له حريقًا شب في داره!”.
لقد بلغ نيرون من اليأس مبلغ البؤس والقنوط، لمجرد أن عقله لا زال صوب الماضي، لا ينفك عن التفكير في الإساءات القديمة، رغم أن حاضره هو الرغد والرفاهية والثراء. قلبه ضل الطريق، وضاع صواب عقله، فقرر حرق هذه الأرض التي عاش عليها. والمدهش أنه قرر البدء بالدار التي يسكنها زوج حبيبته، وقد وقف نيرون أمام المشهد العظيم يطلق مرثية من حشاشة نفسه، وقد ظن الناس أنه يُغني، إلا أنها كانت مرثية فاضت من قلبه الذي وقف لخدمة الإنسانية فلم يلاقِ غير العسف والأذى.
لقد تلظى نيرون في سعير الماضي، وترسبت منه فكرة صغيرة جعلته شريرًا يقتل الحياة ويقبر الأحياء، ولأجلها حرق مدينته جمعاء. وانكمش عقله وضمرت أفكاره وظل رهينًا للشر. وبالطبع يُصنفه التاريخ كأحد المجانين مع عمه كاليغولا والنازي هتلر، لكن المُلفت أن هؤلاء قد حرقوا العالم من أجل حاضرهم، إلا أن نيرون فعل فعلته من أجل الماضي الأليم.
بالطبع ليس نيرون مثلًا وقدوة، إلا أن الحقيقة تقول إنه لا حاضر بلا ماضٍ، وكل الجنون محاولة العبث في هذا الماضي. فإن قدرت على ذلك مع نفسك، فإني أُبشرك بأن التاريخ كله مُدون في عقول وألباب الناس، لن تقدر على محوه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. لذا، لن ينفعك العبث مع الماضي ومحاولة تزوير أوراقه وتزييف حقائقه.
من الصعب جدًا أن يقع التاريخ بين الشك واليقين، لذا فقد يحتار الناس ولن يحتار التاريخ. وربما تهتز أوراق الشجر، وهو ما لن يحدث مع أوراق التاريخ. وربما يعرف الماضي التجاوز وغض الطرف، لكنه لن يقدر على وأد الحقائق وطمس الأنباء واستئصال الجرائر والآثام. وقد يقدر على ستر الصحف السوداء وحجبها، لكنه أبدًا لن يقدر على تمزيق حكاياتها وأخبارها.
وجب الآن على كاتبي التاريخ أن يضعوا أوزارهم جانبًا، وأن يجددوا أقلامهم، وأن يطلبوا الصفح والمغفرة، وأن يتركوا الحاضر يستلهم أحداثه من الماضي، هذا الماضي الذي هو كل شيء.
أديب الرياضة