أدب

السيّاب في ذكراه الستين

 باسـم فـرات

لم يسحرني شاعرٌ كما سحرني بدر شاكر السيّاب (1926 – 24 كانون الأول 1964 للـميلاد)، لا أعني منجزه الشعري فقط، إنما حياته أيضاً، فالسيّاب هو أنموذج صارم لمن تسول له نفسه، أن يستعيرَ من الشاعر أبي الطيّب الـمتنبي (915 – 965 للـميلاد)، اعتداده بنفسه، وأنفته حتى الغرور، فيظن نفسه شاعراً مهماً، وكبيراً. ريادة السياب المبكرة للشعر الحر “التفعيلة”، إذ إنه كتب قصيدته “هل كان حبّاً” في تشرين الثاني 1946 للـميلاد، أي وهو في العشرين من عمره، ونشرها بعد عام، أي 1947 للـميلاد.

 هذه الريادة، تقود لطرح هذا السؤال: كيف لشاعر قروي نحيل، أن يتجَـرّأ على سطوة عمود الشعر، هذه السطوة التي تمتد لأكثر من ألف وخمسمئة سنة، ويحمل الشعر العربي إلى آفاق رحبة، ويتبعه الشعراء الغاوون، وهم بالـمئات، خلال سنوات قليلة؟ أيّ شجاعة وجرأة يُخبّئهما هذا الشاب القروي في جسده النحيل؟

في التجديد الشعري، والإبداعي عموماً، لا يهم مَن الذي كتبَ أَوَّلاً، إنّما الأهمّ، مَن حَـوَّلَ هذا التجديد، إلى ظاهرةٍ، يقلّده فيها سواه. حتماً هناك محاولات للخروج على عمود الشعر، لكن نازك الـملائكة والسيّاب، جعلا هذا الخروج ظاهرة، إذ سرعان ما اقتفى أثرهما شعراء كانوا يزدادون كلما تمضي الأيام. وكان الشعراء العراقيون أسرع استجابة وأكثر عدداً في هذه الثورة الشعريَّة الكُبرى، من رفاقهم العرب.

في عام 1984 للـميلاد، قرأت ديوان السيّاب (صدر عن دار العودة في بيروت في مجلدين، وكتب مقدمة طويلة له “ناجي علوش”)، وكان أول شاعر، لا أكتفي بقراءة ديوانه من الغلاف إلى الغلاف، كما هو المعتاد مع غيره من الشعراء، وحسب، بل أضفت إلى ذلك، قراءة مجموعة من الكتب عنه، مثل كتب عبد الجبار داود البصري، وعبد الجبار عباس، وإحسان عباس ومدني صالح، فضلاً عما كان يُنشر في الصحف والمجلات العراقيّة إبان عَقد الثمانينيات من القَرن العشرين. وهو أول شاعر أكتب عنه، فقد أنجزت أول دراسة في حياتي بعنوان “ثنائية الـمرأة والـموت في شعر بدر شاكر السيّاب”. وكنت حينها في الإعدادية “الثانوية”، فقدتها بعد ذلك مع الأسف الشديد. ومع “هَوَسي” بشعر السياب، بل وبحياته، ومحاولتي البحث في مرجعياته الثقافية، فإنّني انتبهت، منذ البداية، إلى خطورة الوقوع في “براثن التقليد”، فكنتُ أقرأ كل يوم، قصائد لشعراء آخرين. كنتُ أُقسّمُ وقت القراءة، إلى نصفين، نصف للشاعر الذي أنا بصدد قراءة أعماله الكاملة، وآخر لقراءة مجموعات شعرية لشعراء آخرين، أو نماذج منها، فضلاً عمّا كان يُنشر في الصحف والـمجلات آنَذاك. هذه الطريقة منحتني صوتي الشعريّ الخاص منذ البدايات، ولم تتضح يوماً أصواتٌ شعريّة في قصائدي الأولى، وهو ما أشرت إليه في قصيدتي “أَرسمُ بغداد”، الـمنشورة في ديواني “خريف الـمآذن”، بقولي: “لا أَحَدَ يُغَـرِّدُ في حُنجرتي”.

لم أستطع تذوّق شعر نازك الـملائكة، رفيقته وندّه في تجديد الشعر العربي، في حين وجدتُ مبتغاي في “السيّاب”، خصوصاً في مجموعته الشعريّة “أنشودة الـمطر”، وشَكّلت حياته دافعاً لأن يكون قريبًا لنفسي، فكلانا عرف اليُتم، والحرمان، والشعور بالقبح والضعف، وهذا الشعور أخذَ منّي وقتًا طويلاً، حتى تخلصت منه، بل إن شعوري بـ “قُبح صوتي” لم أتخلّص منه، إلّا بعد محاضرتي في كلية ابن رشد، جامعة بغداد، فقد اقترح عليَّ أحد الأشخاص ممن أثق بهم جدّاً، أن “أفتح قناة على اليوتيوب، وأنشر قصائدي بصوتي، فضلاً عن آرائي في التاريخ والثقافات الأخرى التي عايشتها، لا سِيَّما – والكلام للشخص نفسه – أن صوتي تستسيغه الأذن.

لا شكَّ في أن خطوة “نازك الـملائكة” (1923 – 2007 للميلاد) في التمرّد على عمود الشعر، خطوة جبارة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار البيئة النجفيَّة – البغداديَّة التي جاءت منها، ومثل هذه البيئة التي تشدّ أبناءها للمحافظة على النسق الاجتماعي والثقافي، لا ينفع معها التمرّد الـمحسوب بخطوات دقيقة، بل يجب أن يكون الـتمرّد إلى أقصاه، فكان طبيعيّاً، تراجع الـملائكة، بل وشعورها بالذنب، حين راح الشعراء الـمتمرّدون، يجرّبون أساليب شعرية مختلفة، لا سيّما بعد انتشار التعليم، وصعود طبقة الفلاحين والعمال والفقراء وأبناء الهوامش لصدارة المشهد الثقافي والفني.

طبقة الهوامش، لا تُقَيّدهم تقاليد الأسر الـمدينيَّة العريقة الـمحافظة التي أنجبت مثل نازك الـملائكة، فهؤلاء متمردون على كل شيء، على واقعهم الـمزري، وعلى تهميشهم، وتعامل الحكومات معهم بفوقيَّة، بل وجعلهم وقوداً لما يخدم مصالح مشاريع هذه الحكومات، فكان تمردهم في صالح الشعرية العربية، التي انفتحت على تجارب شعرية غربية، وعلى التصوّف، والفلسفة، والأساطير الوطنية والقومية والأجنبية. لذلك، استمر السيّاب ورفاقه، في حين تقهقرت نازك الـملائكة.

إنَّ الدرس الذي تعلمته من السيّاب، هو أن كل مَن تجاوز الحادية والعشرين من العمر ولم يُحْدث ثورة في مجاله الإبداعيّ، أو المعرفيّ، أو العلميّ، فعليه أن يقمع “أناه” ويخجل من نفسه، وخاصّة حين يتجاوز الثامنة والثلاثين من العمر، (وهو السّنّ الذي توفّيَ فيه السيّاب)، ولم يُشكّل ظاهرةً شعريةً، أو إبداعيةً، أو ثقافيةً، أو فنيةً، أو علميةً. السيّاب هو الـمبدع النموذج الذي أضعه أمام ناظريّ، مثلما أضع الـمتنبي ورامبو؛ فهؤلاء منحوني الإيمان بأنّ أي مشروعٍ جماليٍّ، أو معرفيٍّ، أو علميٍّ، أو ثقافيٍّ، ينبغي أن يُكرّس صاحبُه حياته له.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى