من دهاليز القضاء

الضابط حسن

فواز عويد خليل

للأسف..  لا زلت مانك آدمي…

كنّا جلوساً في قاعة المحامين في مدينة الرّقة ذات يوم نتبادل أطراف الأحاديث القانونية والاجتماعية والسياسية وما شابه ذلك، فحدثنا المحامي الأستاذ الفاضل محمد أنزور حال حياته ـ تغمده الله برحمته وأدخله فسيح جنته ـ الحادثة التالية قائلاً:

كان لنا قريبٌ من القوميّة الشركسيّة يعيشُ في إحدى المدن التركية في العشرينات من القرن العشرين المنصرم، يعمل نجاراً في محل خاص به.. وكان له ولدٌ شابٌّ مراهقٌ شقيٌّ يُدعى حسن يسببُ له كثيراً من المشاكل والمعاناة بسبب تصرفاته الرعناء وعبثه.. وسلوكه السيء مع أبناء الجوار ومحيطه بشكل عام.

وكان والده كثيراً ما يوبِّخهُ ويعنِّفهُ ويزجرهُ قائلاً: متى تكبر يا حسن وتصبح آدمي عاقلاً وأرتاح من رعونتك ومشاكلك؟؟.

والله أتعبتني وكرهتني حياتي..

وكثيراً ما كان والده يكرر على مسامعه هذه العبارة..  ولكن دون فائدة تذكر.

وفي يوم ما.. غادر حسن بيت والده، واختفى ولم يعثر له والده على خبر ـ رغم بحثه الدائم عنه ـ  .

مرتْ سنواتٌ طويلة، وأصبح الوالد شيخاً عجوزاً.. ولكنه لا زال مستمراً في عمله في محلِّ النجارة.. ويحلم بلقاء ابنه وفلذة كبده في يوم من الأيام.

وفي يوم ما حضرت دوريّة عسكريّة من الجندرمة إلى محله المذكور، وسأله أحدهم بجفاء: هل أنت فلان بن فلان.. فأجاب العجوز نعم أنا هو.. فهجم عليه اثنان من العسكر وصفّدا يديه خلف ظهره، وقاداه بعنف وهما يضربانه ويشتمانه.. وهو يتوسل إليهما أن يرحما شيخوخته وكبر سنه، وأن يخبره عن سبب ذلك.. وإلى أين يقودانه؟؟  فيأتيه الجواب مع صفعة على وجهه ورفسه على ظهره: اخرس بعدين تعرف.. أسكت بعدين تعرف..

وبعد ساعة من الزمن تمَّ إدخاله إلى غرفة واسعة يجلسُ في صدرها ضابطٌ عسكري رفيع المستوى وحوله مجموعة من العساكر.

فوقف الرجلُ العجوزُ أمامه خائفاً ذليلاً مهيض الجناح، وهو يحدِّقُ في الفراغ بدهشةٍ  وذهول..

 فقال له الضابطُ بعجرفة وكبرياء..

انظر إلى وجهي ..

ألم تعرفني؟؟.

فأجابه الرجل العجوز، وقد طفرت الدموع من عينيه وتدحرجت الكلمات من فمه ركيكة:

للأسف.. لم أعرفك يا سيدي. من أنت؟؟.

فقهقه الضابط ضاحكاً وقال بتفاخر: أنا ابنك الضابط حسن.. الذي كنت تعيِّره دائماً بقولك: متى تكبر يا حسن، وتصبح آدمياً عاقلاً وأرتاح من مشاكلك؟؟

ها انا الآن أمامك أنظر، لقد كبرت وأصبحت ضابطاً يصول ويجول.

فاستغرب الرجل العجوز وقال: للأسف يا بني.. صحيح أنّك أصبحت ضابطاً تصول وتجول “ولكن لا زلت مانك آدمياً أبداً، بل ازددت سوءاً وتوحشاً، وأصبحت تنهش وتقتل من حولك”.

ترى.. كم نعاني من هذا النوع المتوحش الذي لا يمتُّ للآدمية بصلة مطلقاً.. في حياتنا اليومية التعيسة في هذه الأيام البائسة؟؟!!

وما أكثرهم حولنا..

ولله في خلقه شؤون وشجون..

محام وفنان تشكيلي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى