هل سقطت الصحافة؟!

عبد الكريم البليخ

كانوا يقولون، قديماً، إن الصحافة مهنة البحث عن المتاعب. لم يكن هذا الوصف مجرد مجاز لغوي، بل حقيقة يعرفها جيداً من خاض غمارها. كانت مهمة الصحافي يوماً ما محفوفة بالمخاطر، يبدأ يومه باحثاً عن الحقيقة، وينهيه مطارداً للوقائع. كان دوره أن ينقّب في ركام الأحداث، وأن يستخرج المعلومة المدفونة، ويكشف الأسرار المطموسة؛ لا لشيء إلا ليضعها بين يدي الناس، صوناً لحقهم في المعرفة، ودفاعاً عن مصالحهم العامة.
كانت الصحافة آنذاك منبراً لمن لا صوت له، ومرآة تعكس هموم البسطاء، وصرخة في وجه الظلم، وسيفاً يُشهر ضد الفساد والمفسدين. وفي هذا الطريق الشاق، مضى فيها الشرفاء والمخلصون، واندسّ بينهم الطامعون والانتهازيون، كما في كل مهنة. ومع ذلك، ظلت الصحافة محتفظة بجوهرها، واحتفظت لها الأيام بحدٍّ أدنى من المهنية، وقدرٍ غير قليل من الموضوعية والنزاهة.
لكن لا شيء يدوم على حاله. ومع تعاقب السنين، تغيّرت ملامح المهنة. لم يعد السباق فيها على ثقة القارئ والمشاهد والمستمع فحسب، بل صار صراعاً محموماً على كسب الإعلانات، لتغطية النفقات المتضخمة، وتمويل الاستثمارات الإعلامية الضخمة التي باتت تُدار بعقلية تجارية بحتة.
في خضم هذا التحول، ظهر من يحاول أن يُبقي جذوة المهنة مشتعلة. هناك من قاوم بشرف، ورفض أن يخلط بين “الإعلان” و”الإعلام”، ومن تمسّك بأخلاقيات العمل الصحافي وأصوله، ومن بقي مؤمناً بأن احترام المتلقي وكسب ثقته، ليس ترفاً، بل هو أساس بقاء الصحافة.

لكن الانحرافات بدأت تتسع، ومواطن الخلل لم تَعُد استثناءً عابراً. وشيئاً فشيئاً، بدأت الصحافة تفقد شيئاً من نقائها، ومعه شيئاً من احترامها. لم تَعُد المساحات كلها للمهنة، بل اقتحمها المال والنفوذ، وأحكم قبضته عليها.
واليوم، لا يمكننا أن نتجاهل حقيقة مرة: الصحافة تواجه محاولات اغتيال معنوي، والإعلام برمّته يعاني تشويهاً للسمعة. ليس فقط من قبل الأنظمة أو الحكومات، بل مما هو أخطر: التمويلات المشبوهة، والتدخلات الأجنبية، ومراكز الدراسات التي لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تسعى لتشكيل وعي زائف، يخدم مصالح مموليها.
المنظمات الحقوقية، التي كان يُفترض أن تكون صوتاً للعدالة والحرية، تورط بعضها في دعم ناشطين وصحافيين وإعلاميين، لا لنُبل رسالتهم، بل لتوجيههم وتوظيفهم لخدمة أجندات سياسية مريبة. عند هذه النقطة، أصيبت المهنية في مقتل.

ولم يعُد الصحافي المحايد ذلك الذي يُقاتل من أجل حريته، أو يكتب بدافع الضمير الحي، أو يدافع عن استقلال مهنته. بل صار مشغولًا – على نحو مأساوي – بالدفاع عن نفسه، وتبرئة ذمته من تهم العمالة أو التطبيل. أصبح عليه أن يثبت أنه لا يُصفّق لهذا النظام، ولا يُهادن تلك الحكومة، بل يحاول جاهداً أن يُبقي الصحافة واقفة، متماسكة، رغم كل ما يحيط بها من خيبات واتهامات وسهام مسمومة.
نعم، هناك من لا يزال يقاوم؛ من لا يزال يؤمن أنّ الصحافة رسالة، وأن الكلمة موقف. لكنهم أقلية تكاد أصواتهم تضيع في ضجيج التزييف، وسطوة المصالح، وزحف التسطيح.
فهل سقطت الصحافة؟
ربما لم تسقط كلياً، لكنها بالتأكيد لم تعد واقفة كما كانت.
25/03/2025