Site icon المزمار الجديد

العشيرة شمسٌ تحتضر

رشيد محمود رمضان

اننا نغرق..

نرتمي في سراب الوهم دون اختيار منا.. نبحث عن ظل نركن إليه من هجير الأبد لنعبر مرحلة الاحتضار، ولكنا نرجع وفي جنباتنا ينتحب الحنين، والندم..

القطار يجرر جسده الحزين..

 وانا أشيع الوجوه الجامدة، بنظرات يقيل فيها البوار..

وقلبي شرع يتلاشى، يحترق، ينشر دخاناً فضياً له رائحة الشواء..

القطار يغلل في حشا الظلمة..

والعربات مقفرة بلا مسافرين .. عواء مخنوق يتفجر في أرصفة

 المدن الضائعة في هباب المداخن.. طارحاً في فناء نفسي نحيب ارتحال أبدي.. وتجتاح العربات موجة خائفة من الأسى.. سدت علي منافذ النجاة وأوصدت دوني ابواب الرجاء.. إنها هنا، هناك، في كل مكان أهرب منه وأتوجه إليه، إنها اللعنة الأبدية التي تتعقبني و تترصد خطوي لتنسف جسر الكراهية المعلق فوق نهر الدم الذي يجري في جنبات صدري …

وجوه مستعارة، تطاردني، وتحيط بي في أي مكان أحط به رحالي .. إنها ظلال حية لوجه الجريمة الذي تردى وسط جنازة من الصمت الحزين..

صفير القطار الأبح يجرح هداة الليل..

وغشيت عيناي خلف رداء من الدموع.. شواظ من نار يدوم في عراء الدهر .. سحابة سوداء تحجب الشمس، تشوهت الاشكال … الشارع قفر .. خلو من العابرين، قيظ الظهيرة يشوي عيني … غامت المرئيات، أمحت الظلال، تلاشت، غرق كل شيء بالذهول..

شددت على المسدس..

وفي دوامة الصخب القاسي المصمم .. بدأ كل شيء وانتهى كل شيء.. دوي الرصاص يغسل صمت هذا النهار الغريب وينداح في لجه المدمى، قارب نكس راية الأسی، مرکب نار راح يمخر عباب يوم من الشقاء..

ثلاث طلقات…

وتدفقت قرب الكآبة .. وضعت في قرى الضباب.. سياط حقدي ما زالت تنبح  كقطيع ذئاب جائعة …

ثلاث طلقات…

قرعت بهن نافذة الفناء…

سخطي كابوس سيظل يسلط مداه ليغمدها في قلبي حتى يصيب مني مقتلاً …

سخطي .. وجه آخر مستعار، صدی تردده اجنحة الوجل التي تتمطى في ذاتي .. وجه زنجي، يخلق في صمتاً تسكنه الدموع.. ثلاث طلقات.. قرعت بهن نافذة الفناء…

مرجل القطار يهدر.. جنت العجلات وهي تخترق ظلمة الليل..

القطار غراب أسود، بومة نعقت في الهجير…

واندس في سريرة الذكرى ، في قتامة الطفل الذي يسترخي في ساحات نفسي، يهبط على كنجم مطفأ..

المطر يهطل، الطريق موحلة، وحقيبتي تهتز بيدي، قريتي ميتة، وفي قلبي يزهر الشتاء، وجوه تلوح، يسورها الغموض ، عيونهم قبور تفع بالديدان .. أحكم الحصار، طروادة تموت مرة أخرى ..

نهر الفرح الذي كان يجري حين عودتي، غاض ينبوعه، چف، وأصبح ضحلاً، مستنقع آسن، ينشر الذباب والوباء …

قريتي ميتة .. وفي قلبي يزهر الشتاء..

***

باب دارنا الكبيرة موارب، سكون شامل يلف المكان، كلاب قريتنا تنبح بحزن، وورائي كانت تختنق البيوت الرمادية .. وتختفي خلف سياج من الأسرار، وفي ظلام ما قبل العتبة، تجشأت تعبي سقوط مفاجیء … انحدار نحو الهوّة .. لهب حقد جهنمي يلتمع في عيون أبي واخوتي .. يجيئني على شكل جمر متوهج، ينعكس عليه ضوء الفانوس الهزيل .. وانتابني البلبال .. وابتدات النوبة .. الذراع تسقط .. تسترخي.. الحقيبة فجر محطم .. الرجفة تجتاحني، اهتز كنابض آلة بالية .. والدتي تهرول.. ثوبها أسود، في عينيها دمعتان هبطتا قسراً عنها .. ترتمي على صدري، ثم تنتحب بحرقة وألم.. تماثيل حقد سمرت على الجدران.. الجمر المحرق يزداد توهجاً .. حمامة وديعة بيضاء أقفرت منها الدار..

– أماه، هل ماتت (سمره)؟

وجاءني الجواب كنصل سكين عتيق، يتألق بالدم..

– يا ليتها ماتت …

كلمات ألقاها أبي وكأنه يَهشم حشرة شريرة .. كأنه يلوك مضغة من لحم صبي ميت خنقه بین اصبعيه..

كفّ عن هذا يا أبي، ابتهل إليك أنقذني من القبر الذي أوقعتني فيه…

وأجلت بصري فيهم علني أعثر على جواب يبعد عني هاجس الشك، ومرارة الانتظار.. ولكني رأيت شيئاً رهيباً انتشلني من بئر الحيرة الذي ترديت في قرارته … “رأس والدي بلا عقال… اخوتي كانوا منكّسي الرؤوس حاسريها .. العشيرة تحتضر.. القرية ميتة.. الشوك ينمو في العيون” .. وأسقط في يدي، فهمت كل شيء.. والدتي ثوبها أسود .. سمرة ميتة .. ورجعت أدراجي إلى سنين مضت .. كانت كلمات والدتي ترنّ في اذني، ولا زالت تتناهى إليّ مليئة بفيض عارم من فتوة ورجولة …

“العقال يا بني لا يرتديه سوى الرجل، والرجل الرجل هو من حافظ عليه، وظل رافع الرأس وعلى حرامه الأبيض ملاء النقاء عقاله عنوان الرجولة الكاملة، وشارة شرفه وكبريائه كرجل …

عقال العشيرة ملوث يا أبي ولا يغسله سوى الدم .. وعشى بصري ذلك الاحساس الحاقد الذي يفحّ في أعماق عشيرتي كلفح سعير سيظل مضرماً حتى تجيء الذراع وتملكني هذيان رهيب … وعلى وجهي عبر طرقات القرية كنت اهرول بلا عيون.. صوت والدي بیدر شقاء يسبح في سمائي..

– لا تطفيء مستقبلك يا بني، سوف ينتشر اخونك في كل البلاد حتى تجيء الذراع .. ستجيء الذراع يا ابي .. سماء الدم ..سافرت ورائي.. ولن أعود الا ومعي الذراع التي ستشنق موت قريتي..

عشيرتي شمس تحتضر.. وسوف تعبر مرحلة الاحتضار.. الوجوه ستنزع قناع الغموض .. ونهر الفرح نهر المخلوقات البشرية التي حنطتها المأساة .. سوف يجري كما كان في الماضي ….

ليلة بلا نجوم … تلك التي وصلت بها المدينة ..

.. وتلتها ليال كن أشد ظلمة منها .. وفي هذه الأوقات البطيئة كانت تنمو في أعماقي ديدان الحقد، وتكبر .. كنت أعمى .. بلا عيون .. بلا أفكار، غير حثالة حقد حبيس كان يهدر كمرجل هذا القطار. فجأة .. ووجدت نفسي على شفير الهاوية.. ولحقني العويل .. ونبح ذئب الحقد، وكبرت الصور .. وتجسّم المنظر.. الشارع قفر .. واستيقظت سماء الدم شددت على المسدس ثلاث طلقات وفتحت نافذة الفناء .. المدينة تركض خلفي .. سحب سوداء تلاحقني..

وجوه مستعارة.. لهيب أسفي .. سخط.. الكابوس ..

لم تكن وحدها.. كان بطنها منتفخاً ..عيون الطفل ترجمني .. الجرائد تتقفى أثري .. تغمد خناجرها في عيني …

“حقوقي يقتل شقيقته”.

“شاب يدرس القانون يذبح اخته الحبلى”.

وأنهار كومة من ضجر محطم.. حثالة حقد عبرت بلا فائدة.. قناديل حياتي التي أسرجتها بالربيع، انطفأت وكانت السقطة قبري الأبدي …

القطار ينحدر في قلب المدينة .. ويهدأ هدير مرجله، تنتشلني من وهدة أفكاري جلبة المتفرجين .. وانتابني حس السقوط المفاجيء .. شعرت انهم يشيرون إليَّ صائحين “هذا هو القاتل”. وأهبط المدينة كفرقة تنتحب .. فقدت قائدها في معركة ضارية .. ويرعى الهرم في دياجر وجهي.. وفي عتمة الليل يحلق غول له آلاف الأيدي والأرجل، يلعق الدم، في شارع قفر. وعيون طفل صغير تتدحرج في توسل أليم …

هاجس النبذ يساورني .. كنت أنفصل بوحشية عن العالم… يسيل في جسدي قدر هائل من التفاهة وأصلب نفسي على خشب الهَجير التائه في مجاهل الأزل ..

أردت أن أتدفق أمام العالم … حوالي ذاتي، ليمتلىء العالم بأشكال تشبهني، ولكني هويت تحت العالم.. كجرذ قذر، يسير متنكر الوجه .. أسود النفس ..  يحمل معه سرّ مأساته. ويجر وراءه صليب تعاسته الدامي ..

أبراج الحياة التي كنت أعد نفسي لأحلق فوق قمعها كسرب من حمام أبيض، ترنحت .. وانهارت ببطء. منذ أن هوت أجنحة تلك الحمامة الوديعة .. وعفّر دمها أرضية الشارع القفر .. حين ابتدات النوبة، ونبح ذئب الحقد كنت أنا زائداً عن اللزوم فحجبت عن بصري الأشياء .. وحط على مقلتي ملاء دم … بومة تعقبت فانتحب الحنين في دمي .. وبكى الندم . وأنا الآن امرؤ زائد عن اللزوم، علي أن أتلاشي، أنزوي لأتخلص من خطأ اللعنة من الوجوه المستعارة التي تتقفى أثري ..

مركبات النار تمخر بحار الشقاء .. عربات الحزن .. ترحل على متن غيمة من الأماني المطفأة .. ومن البعيد لمحت حلقات دخان فضي تتكدس كسحاب أسود يحجب الشمس، كتلك السحابة في ذلك النهار الغريب. المدينة تهجع أمامي في استسلام حزين .. القطار يتدحرج من جبل شاهق ثم ينساب على السفح كحية سوداء. ثمّة أنين ما يتناهى إلي متقطعاً من مكان قصي ناء .. ربما هو آت إلي من قريتي .. من نهر المخلوقات البشرية الحزين. وأمسكت المسدس بيدي .. اللحظة الحرجة تقترب ..

غسلت عقال العشيرة الملوث بدم سمره وسوف أغسل عقال العالم بالدم أيضاً ولكنه سيكون دمي هذه المرة..

ثلاث طلقات..

ودخلت النافذة المفتوحة العالم ينتهي .. رجة عنيفة، أعقبها نواح خافت .. وتدحرجت كومة من ضجر محطم ..

الشمس شبه ميتة .. كانت تحتضر تتوارى .. عشيرتي .. يارب

شمس تحتضر .. آن لها أن تموت.

رشید محمود رمضان

6/3/2025

Exit mobile version