اللاعب القدوة

محمد رضوان
كثيراً ما نتحدث عن اللاعب القدوة، وكثيراً ما تختار الجماهير أسماء بعينها، وغالباً ما تقع هذه الاختيارات تحت طائلة العاطفة، وهي التي تتحكم دائماً في آراء الجماهير واختياراتهم، لكن عندما يكون الأمر في أيدي المتخصصين، فالحديث هنا يكون مختلفاً تماماً، فاختيار اللاعب القدوة عند المتمرّسين لا تتحكم فيه العاطفة، وإنما له موازين وقياسات لا تغيب عن عقول هؤلاء المراقبين المتابعين.
وعلى الدوام يبقى هناك شخص واحد في ملاعب كرة القدم، يُمثل مصدر الإلهام للناشئين، ويظل لهم مَبعث الاحتذاء، بدءاً من تصرفات هذا القدوة على أرض الملعب، مروراً بالمقابلات المتلفزة قبل وبعد المباراة، إلى أن يمتد الأمر إلى حياة هذا اللاعب الخاصة، وعلاقاته بمن حوله، وبالطبع أحياناً يكون الاقتداء إيجابياً، وللأسف يكون في أحايين كثيرة سلبياً جداً، فاللاعب مرهون بالالتزام، داخل الملعب أو خارجه، والتأثير الحسن مرتبط بالسيرة الحسنة، فلا يكون اللاعب ملتزماً داخل الملعب، وسيء الطبع خارجه، والعكس كذلك، وإنما هو في طور الالتزام في كل لحظات حياته، طالما صارت الأضواء تراقبه أينما حل أو ارتحل.
وفي زمن الملايين الذي نعيشه، أصبح عدم الانضباط والسهر وشرب الممنوعات شيئاً ملازماً لأغلب المشاهير، لا سيّما لاعبي كرة القدم، فصاروا للأسف الشديد قدوة غير صالحة للأطفال، فلم تُغني عنهم موهبتهم في كسب ثقة أولياء الأمور، حتى إن بعض هؤلاء الآباء رفض الزجَّ بابنه في مجال الساحرة المستديرة، خوفاً من انجرافه في تيار الشهرة الذي لا يُبقي ولا يَذر.
والحقيقة تقول إن هناك علاقة طردية، بين نجاح أي لاعب وسلوكه، فكلما ازداد بريق هذا اللاعب وعلا شأنه، كلّما توجب عليه اتساق سلوكياته وانتظام أفعاله، وهو بالطبع ليس أمراً يسيراً، حيث أنّ كثيراً من اللاعبين تأخذهم الأضواء، وتسرق رؤوسهم بشدّة، فينجرفوا مع تيارها، وتنجرف بالتالي أفعالهم، فيصبحوا للنشء قدوة سيئة، وقد اخترت الحديث في هذا الأمر، والإعلام المصري يعيش هذه الأيام مكتوياً بنار حكاية لاعب نادي الزمالك أحمد أبو الفتوح.
أعتقدُ أنَّ المشكل الأكبر هو انتفاخ عقود الاحتراف التي استشرت اليوم في الملاعب، حيث تُغدق على اللاعبين الأموال من دون تبعات، وبلا مسؤوليات على اللاعب، مما جعله يظن أن هذه الأموال نظير اللعب فقط، وهو أمر مغلوط تماماَ، لأن الأداء داخل المستطيل الأخضر مرهون بالالتزام خارجه، ولكن للأسف الشديد، حتى إدارات الأندية تجهل ذلك، فلا تجعل رقيباَ على اللاعبين سوى بين جدران النادي، أما غير ذلك، فإنها تترك الحبل على الغارب للاعبين.
الحقيقة أنَّ ملاعبنا العربية اليوم تفتقد بشدة لهذا اللاعب القدوة، هذا اللاعب الذي يكسب احترام الجماهير بأخلاقه قبل موهبته، وتعاملاته الإنسانية قبل سلوكياته الشكلية، فاللاعبون اليوم أكثر ما يهمّهم هو قصّات الشعر والسيارات الفارهة وغير ذلك من السلوكيات الشاذّة، التي يُعاقِب عليها القانون، والمُتابع لوسائل التواصل الاجتماعي يرى كثير من التصرفات السلبية للاعبين المشهورين، ناهيك عن أحاديثهم التي يَندى لها الجبين، وقد يكون هذا مقبولاً من الأوروبيين، لكن اللاعب العربي تحكمه تقاليد وأعراف وشرائع دينية، تُوجب عليه الاستقامة والالتزام.
لا يمكن أن أتحدث عن هذا الأمر، من غير أن أذكر نجم مصر والنادي الأهلي، أمير القلوب، محمد أبو تريكة، هذا الرجل الذي تغلبت أفعاله خارج الملعب على إبداعاته داخله، حتى تحاكى الناس عن مواقفه الاجتماعية قبل أن يتحاكوا عن أهدافه ومهاراته، وقد بدأها في كأس الأمم الأفريقية 2008، عندما كشف عن قميصه “تعاطفاً مع غزّة” بعد أحد الأهداف، هذا القميص الذي تم بيعه بعد ذلك في مزاد خيري أقامته لجنة الإغاثة الإسلامية لتوفير الدواء لأبناء غزّة، من هنا انطلق أبو تريكة في رحلته، ومن هنا ظهرت في أفعاله القدوة، وفي كل مرة يزداد في أعين متابعيه سمواً ورقياً.
لقد بلغ محمد أبو تريكة بأدبه الجَم وحسن اختيار مواقفه مبلغاً عظيم بين الناس، فاجتمعت على حبّه الجماهير العربية قاطبة، وصاحَبه الترحاب الشديد أينما حل، وقد حدث بالفعل في المغرب والجزائر والكويت، وحتى في مباريات التكريم العالمية، الكل يُحب أبو تريكة، ويُسعد بلقائه، ليس لأدائه مع الأهلي أو منتخب مصر، وإنما أولاً وأخيراً، لأخلاقه السامية وجميل مواقفه، فصار بحق قدوة لكل اللاعبين العرب.
على الجانب الآخر، هناك لاعبون تخطوا محمد أبو تريكة لعباً واحترافاً، لكنهم بقوا قدوة في اللعب فقط، ولا شيء غيره، وذلك لضبابية شخصياتهم، وسوء اختياراتهم، وانجرافهم مع التيارات المختلفة، دون تحديد مواقف ثابتة، لذلك صارت مسألة القدوة بالعموم بالنسبة لهؤلاء مستحيلة، وأصبحوا قدوة في لعب كرة القدم فحسب.
وحتى لا يكون الأمر مقصوراً على أبو تريكة، أقول أن ملاعب كرة القدم العربية، مر عليها العديد من اللاعبين القدوة، وليس بالضرورة أن يصلوا إلى مصاف العالمية، لكن يكفي أنهم قد وصلوا إلى مصاف القلوب بأخلاقهم داخل وخارج الملعب، هؤلاء الذين عرفوا كيف يضبطون أفعالهم في أشد المواقف قسوة، فعمّروا القلوب والعقول، هؤلاء الذين نتمنى أن تعج الملاعب العربية بأمثالهم.
أديب الرياضة