المجنونة

محمد الحاج صالح

القصة تقادمت وأعتقد أن روايتها لا تنقض قَسماً طبياً ولا تجرح منظومة أخلاقية. في منطقتنا يقولون “راحتْ الدنيا بأهلها” يقصدون أن زمناً طويلاً انقضى على الحدث وأن كثيرين ماتوا وكثيرين شبّوا واكتهلوا. الجرائم نفسها تتقادم وتسقط إنْ طال الزمن. لذلك أعتقد أني بحلّ من الحرج إذا ما رويت القصة بعد كل هذا الزمن.
لم أتذكر في البداية لكنني تذكرت بوضوح ما إن قامت بتمثيل تلك الهيئة.
لا يبعد بيت أبو حميد عن عيادتي سوى أمتار. لجاري أبو حميد هذا شابة جميلة جمالاً أخّاذاً. وهو رجل غنيّ محترم مهاب. مع الوقت ومن نتف الأحاديث علمت من الجيران أنه طاغية عصبي في تربيته لأبنائه. زوج ابنيه الشابين باكراً وأمّن لهما بيتين. وكان واضحاً لسكان الحارة أن علاقة الابنين بالوالد ليست على ما يرام.
في يوم من الأيام أتاني أبو حميد مضطرباً. يا دكتور أرجوك تعال معي بنتي حصل لها شي. في حالة كهذه لا بد أن أسأل على الفور سؤالاً عفوياً وجوهريا. ما بها؟ ما الذي حصل؟ قال. تعال وشوف بنفسك. بدا لي ذاك الرجل الجبار منكسراً مضطرباً على خلاف طبيعته. حملت حقيبتي وقطعنا الخطوات القليلة إلى بيتهم.
كانت أمها تحضنها محاولة تهدئة الارتعاش، والفتاة ترتعد في رجفة كأنها في صعقة كهرباء مستمرة. عيناها مثل ميزان البُطل واحدة يغيب سوادها مختفياً خلف عظمة أنفها والأخرى تترأرأ جوّالة في محجرها، وفمها يزمّ ويتلوى ويرتخي، ونفسها كالشخير وهي تصرخ:
فكّوني طالعوني من الصورة.
تشير إلى الصورة المعلقة في الصالون وتصرخ. فكّوني طالعوني من الصورة.
ميّزت وجودها في الصورة المعلّقة بين أخويها المتزوجين. فكّوني طالعوني من الصورة.
حاولت أن أجمع معلوماتي وأنا أتظاهر بقياس ضغطها وما اهتديت سوى أن أعتبر الحالة نوبة هستريا. ولكن الجملة التي كانت تكررها. فكّوني طالعوني. وهي تشير إلى الصورة لا تتناسب مع هستريا بسيطة يمكنني أنا الطبيب العام أن أعالجها، وإنما تتماشى مع شيء ذهاني بمظهر هستريائي.
وصفت لها مضاد اكتئاب وشددت على أبيها أنه يجب أنْ يستشير طبيب نفسي في حلب أو الشام. بالطبع استبدلت لفظ طبيب نفسي بطبيب أعصاب، لأن المشهور عندنا أن الطبيب النفسي هو طبيب مجانين. والجنون وصمة عار للأهل أولاً وقبل كل شي.
دار بها أبوها وأمها على الأطباء النفسيين القليلين في وقتنا ذاك أي في سبعينيات القرن الماضي، لكن النوبات ظلت تتحكم بها على الرغم من الأدوية التي سأتيقن بالأخير أنها لم تكن تتناولها.
أراد أبوها غصبها على الزواج من ابن عمها. ولأن سرّاً لا يخفى في حيّنا علم الجميع أن الفتاة ترفض ابن عمها وأنها تهوى شابّاً آخر. لهذا السبب صرنا جميعاً متيقّنين أن قسوة أبيها وضغطه عليها جنّنها. أمست مجنونة فعلاً. وصرتَ تسمع جملاً من نساء الحارة مثل “المسكينة المجنونة بنت أبو حميد. يا خسارة شبابها وجمالها!”
كثيراً ما سمعنا صراخ أمّها ينطلق من بيتهم كلما داهمتها النوبة. وفي كل مرة باعتباري جارهم الطبيب يهرع الأب أو الأم إليّ أو تأتي جارة أو جار كي يعلموني ويصطحبوني لأزورها دون فائدة. كنت عاجزاً فعلاً. وكنت أبرر لنفسي بأن الأطباء الأخصائيون عجزوا فلا ملامة عليّ أنا الطبيب العام الغرّ صغير السن. حقيقة ما كانت زياراتي إلى من باب الواجب ورفع العتب والتطمين الكاذب.
مرت الأيام وتزوج ابن عمها من فتاة أخرى. ثمّ مرت أيام أخرى وتقدم لها شاب قِيل إنه هو من كانت تهواه. وسرى بين أهل الحارة أن الأدوية نفعت أخيراً وأن حال الفتاة تحسنت.
انتقلت عيادتي من تلك الحارة إلى حارة أخرى، وبقيت علاقتي مستمرّة ببعض أهل حارتي القديمة، ولكني لم أسمع منهم شيئاً عن عائلة أبو حميد ولا عن الفتاة. صاروا نسياً منسياً.
مضى دهر وتقدم بي العمر وفي يوم من الأيام أحضر رجل وزوجته ابنهما الشقي فيما بدا. كانت كف الولد مضمدة وكل ما عليّ أن أبدل الضماد الملتصق بقوة بالجرح. كانت المرأة الأم سمينة مكتنزة مدعبلة وكان الرجل الأب طويلاً نحيفاً. رأيتهما يتهامسان ويتشاركان الابتسام بطريقة غريبة. أحسست أن لديهما أمراً يخصني. قالت المرأة. دكتور ما عرفتني؟ وكنت قد التقطت أن اللهجة التي يتكلمان بها لهجة خليجية وهو أمر ليس مستغرباً في الرقة إذْ أن عشرات وربما مئات الألوف من سكان الجزيرة السورية يشتغلون لمدد طويلة هناك أو أنهم بالأصل من هناك على الرغم هويتهم السورية.
هذا سؤال بالتحديد كثيراً مأ أحرجني واعتبرته بلا طعم. دكتور ما عرفتني؟ كيف للطبيب الذي يرى مرضى بالعشرات كل يوم أن يتذكر. وكنت قد اعتدت حقّاً على جواب غير محرج للسائل. العتب على العمر. كبرنا وشاخ المخ. قالت. دكتور حطْ عينك بعيني. حاول تتذكر. أنت ما شفتني من سنين وعامات. عشرين سنة وأكثر منذ ان انتقلنا إلى البحرين. لم أتذكر. لم أتذكر. تماماً هنا زوت عينها اليمنى وأدخلت سوادها خلف أنفها بينما تلاعبت عينها اليسار وتراقصت. نادرون أشد الندرة أولئك الأشخاص الذين لديهم القدرة والسيطرة على تحريك العينين دون تناسق. خلق الله العينين ليعملا معاً في حركة متسقة. عند هؤلاء موهبة السيطرة على عضلات العين الواحدة على انفراد دون الأخرى.
قامت بالحركة مرات وأفردت سبابتها وهي تشير نحو شهادتي المعلقة على الجدار وزمزمت شفتيها كأنها تتمضمض في الوضوء.
وفجأة انسدل في رأسي شريط كأنه شريط سينما ورأيت المشهد المتكرر مرات. تذكرت. هتفت. أنتِ أنتِ هيفا بنت أبو حميد. راحت تومئ موافقة وطفح وجهها بحمرة الخجل والسرور. أنا هي أنا هي يا دكتور أنا هي المجنونة بنت أبو حميد وهذا زوجي هذا الذي صرت مجنونة من أجله.
طبيب وكاتب قصة
سوري مقيم في النرويج