
غازي عبد الرحمن الحجو

لم تكن المرأة على ضفاف نهر الفرات، وخاصة في الريف الرَّقي المترامي الأطراف، بمنأى عن مسارات التطور التي تواترت وشملت كل مفاصل الحياة، كما هو الحال في شتى ربوع الريف السوري وعلى امتداد جغرافيا الوطن. فقد كانت المرأة الفراتية سبَّاقةً في الالتحاق بمناهل التعليم الأساسي التي أصبحت، بكافة مستوياتها، تتوهج بسناها من أقصى الريف إلى أقصاه، واستمرت في متابعة تحصيلها المتوسط والعالي بعد أن أصبحت الجامعات متاحة وفي متناول الالتحاق. فأنجب الريف الرَّقي عدداً كبيراً من الجامعيات في مختلف الاختصاصات، ولا سيما في قطاع التعليم.
ونتيجةً للخدمات التي عمَّت أرجاء الريف، ورغبة بناته في تحقيق قفزات نوعية في مسارات التطور، صار المرء لا يميِّز بين الريف والمدينة في ثقافة الفتيات وأزيائهن وحتى في حِليِّهن وزينتهن. وكان لبناء سد الفرات وإقامة المشاريع الزراعية وتطويرها، كأحد مشاريع التنمية العملاقة في المنطقة، دورٌ كبيرٌ جداً في انفتاح المرأة الفراتية واختلاطها بشرائح مجتمعية جديدة قادمة من محافظات أخرى، ولا سيما من اللاذقية وحمص وطرطوس وحماة، ما دمجها في آفاق جديدة قدحت فيها زناد الإقدام بجرأةٍ للانخراط في ميادين العمل التي كانت حكراً على الرجال.

ومع ذلك، ظلت المرأة الرَّقية في الريف محافظةً على مفرداتٍ أصبحت من مخزون التراث والثقافة الشعبية، ضمن إطار العمل الجمعي التعاوني الذي عاشته المنطقة بعفوية وبساطة، ما يدل على عمق اللُّحمة في النسيج المجتمعي، وانفطاره على سريرة العمل الجماعي الذي يحمل معاني التآلف والتَّواد. ومن هذه المفردات التي أخذت طابع العمل الجمعي وأصبحت تراثاً يتذوق الرَّقيون ذكراه في أحاديث السمر وفاكهة الشتاء، مفرداتٌ لها مذاقٌ خاص، تشوبها تراتيل الغرام وقصص العشق التي كثيراً ما تفضي إلى زيجات وتنتهي بِأُسَرٍ جديدة تمد نسغ الحياة. ولكل مفردةٍ وقتها، وطقوسها، ومعانيها، وأهازيجها، ومنها: الورَّادات – الحلَّابات – الحاصودات – اللاقوطات – الحطَّابات.
الورَّادات (جمع ورَّادة)
كان نهر الفرات هو المنهل الوحيد لمياه الشرب والغسيل والطهي، وتفرعت عنه قنوات الري في ريف المحافظة بعد قيام مشروعي “الرائد” و”الهشم” ومشاريع استصلاح الأراضي، فتغلغلت الأقنية في جسد المحافظة كشرايين تنبض بالحياة في كافة مناحيها. وما إن تضحى الشمس وتكفكف الفتيات أعمال الصباح من عَجْنٍ وخَبْزٍ وغيرها، حتى يبدأن يتواصَيْنَ ويتنادَيْنَ لشدِّ (الحُمُول) أو (الخَطْرَات) والذهاب لإحضار الماء من مسافات قد تكون بعيدة أحياناً.
و(الحِمْل)، أو (الخَطْرَة) هو إناءان أسطوانيَّا الشكل مصنوعان من الصفيح، بقطر يتراوح بين 30 و40 سم، وطول بين 75 و100 سم، تردفهما المرأة على ظهرِ حمارٍ تمتطيه أحياناً، فتذهب لتملأهما من النهر أو من قناة الري. وقد تقتضي الحاجة إحضار (خَطْرة) أخرى أو أكثر وقت العصر، فمن الضروري ألا يأتي المساء إلا وقد ملأت برميلاً أو أكثر، إذ يُعاب على الفتاة أن تنام وبراميل الماء في بيت أهلها فارغة.
تجتمع الورَّادات فينطلقن، ترافقهن بعض كلاب القرية، فتسير القافلة المكوّنة من عدد قد يصل إلى عشرين فتاة في انسياب هادئ، يتخلله المداعبات والعِتابات وبعض الوشوشات لرسائل شفهية حمَّلها حبيب مُدْنَفٌ عبر وسيط إلى حبيبته. وأحياناً، يتصنَّع بعض الشباب مروراً عابراً على عجل لرمي نظرةٍ عن بُعْدٍ أو ليحظى بابتسامة طال شوقه إليها.
وما إن تصل الفتيات إلى الشاطئ، يَخُضْنَ في الماء، حيث ترفع كلٌّ منهنَّ ثيابها لتشبك أطرافها في حزام التفَّ حول خاصرتها، فتنكشفُ سوقٌ يلهثْنَ بياضاًَ مقشَّباً بوشم أزرق منقوش بعناية فائقة. وقد تتجرأ بعضهن على الدخول إلى عمق النهر لتغطَّ بكامل جسدها، فيعبث الماء بخصلات شعرها ويفلِل جدائلها. وما إن تنهضَ هذه الحورية من الماء، حتى تتواتر دوائر أمواج هادئة كانت تداعب جسدها، وقد ارتسمت كل تفاصيله الملتصقة بتنورة “الكودلي” القطنية الرقيقة.
وبعد ملء الخَطْرات والاستجمام قليلاً، تعود القافلة بخطىً متثاقلة، لتصل تخوم القرية على حافة المغيب. ومن صور التعاون بين الورَّادات، أن يتبرعن بخَطْرات ماء للبيوت التي لم تطق عناء جلب الماء من النهر، لعجزٍ أو مرضٍ أو لأن الله لم يرزقهم بنتاً للقيام بهذا العمل.
الحلَّابات (جمع حلَّابة)
ليس هناك أجمل من دفء الربيع الذي ينبعث إلى أعماق الأرض، ليزيل عنها برد الشتاء الطويل والقاسي. تنشر الشمس أشعتها على استحياءٍ، تطلّ من بين غيوم السماء البيضاء الحنونة، التي إن أرادت أن تُمطر، ترسل رذاذها الناعم الحنون، فيعم الخير، وتتجدد الحياة، ويشرع النهار في الطول تدريجيّاً. تبدأ الأغنام بالولادة، ويكثر الثغاء والنباح، وتعلو أهازيج الرعاة وبحبحة ناياتهم، ويهمُّ الناس بالتنقل بقطعانهم إلى البرية الواسعة الخضراء، الغنية بالكلأ.

وحيث كَثُرَ الزرعُ ودرَّ الضرعُ مع طول النهار، لا بدَّ من القيام بحَلْبَتَين في اليوم، الأولى وقت الضحى، والثانية وقت العصر، حيث تتجمع الفتيات وقد تزيَّنَ وتجملنَ، وارتدينَ ملابس تليق بطبيعة الفصل وجماله. يحملن بأيديهن الجِرار أو العلب الخشبية أو السطول أو الصفائح (التنكة)، ويتجهن جماعة إلى حيث مرتع القطيع. وكما هي العادة، يقوم الرعاة بتجميع الأغنام وربطها بطريقة فنية بواسطة حبل طويل يسمى (الشباك)، لتُضبط الشاة فيسهل على الفتاة حلبها.
وما إن تقترب الفتيات من القطيع حتى تبدأ الكلاب بالنباح، وتكثر صيحات الرُعاة، وهم عادةً من الشباب الذين ينتظرون قدوم الحلاَّبات بفارغ الصبر، لتبادل الابتسامات، وتجاذب أطراف الأحاديث، ورمي الكلمات الملغوزة بعبق العشق والإعجاب. وعادةً ما يتقصَّدُ بعض الشباب إفلات نعجةٍ لتُضطرَّ الفتاة إلى دعوته لمساعدتها في الإمساك بها، فتكون فرصته للتحدث إليها وهي تحلب النعجة، ليفصح لها عن مكنون إعجابه.
وما إن تنتهي عملية الحلب، حتى تضع الفتيات الجِرار على رؤوسهن بطريقة فنية، وقد أسدلن الجدائل على المتون أو الصدور، فتنهض الكواعب الحبيسة، ويفيض البياض عن النحور، لا سيما إذا كانت حديثة عهد في تثبيت الجرة على الرأس، فلا بد أن تمسكها بكلتا يديها المرفوعتين إلى أعلى، فتتلكأ وهي تتحرى التحاق حبيبها.
وحين تدنو الشمس إلى الغروب، تتثاقل الخُطا لتتقصى بنفسها عن رَكْبِ زميلاتها، وبعلم بعضهن، ليخرج الحبيب من أحد المنعطفات أو من خلف تلة، فيأخذان وقفةً عاجلة، محمومةً بالشوق والعتاب والخوف من التأخر عن بقية الحلَّابات. فتُسَوِّل له نفسه، وقد وقف أمام نحرٍ يتدفق بياضاً، وكاعبين ضيَّق عليهما الحزام، أن يقطف قُبلة من مبسمٍ بكريٍّ ارتسم بالنقاء وخمرية بعض ورود الربيع. لكن الحيرة تتلاعب به بين الجرة المركَّدة على الهامة، ووردةٍ ستُسرَق من ثغرٍ تاق الحبيب لقطفها في فرصة قد لا تتكرر ثانية. فإن تجرأ وفعلها، انهالت عليه تمتمات اللوم المخضلة بالرضا، ليمضي مسروراً مبتهجاً، وهي كذلك تلملم شتات فرحتها، فتخفُّ خطاها لتلحق بهن قبل أن يدركن أطراف القرية.
الحاصودات (جمع حاصودة)
ما إن تبدأ شمس الصيف في إضفاء لونها الذهبي على سنابل القمح المحمّلة بالخير، والمائلة بتواضع لأنها لم تعد قادرة على حبس خيرها، مناديةً الأيادي السمراء لعناق المناجل، حتى يبدأ الفلاحون بالتحضير لموسم الحصاد في طقوس عرسٍ محملةٍ بالتعب واللذة، عرسٍ يؤمهُ الناس دون دعوةٍ، لمدِّ يد الفزعة، عرسٍ يعكس قيمة التعاون والتضامن والتلاحم بين الفلاحين، إيماناً منهم بأنها العروة الوثقى في هذه الحياة.

إنها لوحة فنية، مشهدٌ رائعٌ يحمل عبق الطبيعة، وعناق المنجل مع سنابل القمح الصفراء، يتحرك بخفة بين اليدين اللتين تجمعان الخير من الأرض الطاهرة، تداعبها خيوط الشمس، وتحتويها تلك التربة، وذلك العرق المتصبب تمسحه الأيدي المتشققة، والسنابل التي تناثرت على الرأس والجبين. إنه موسم ينخرط فيه الجميع، رجالاً ونساءً وشيوخاً، وأحياناً حتى الأطفال، فالوقت ضيقٌ ومحدود، قبل أن يقيس الزرع أي قبل أن تصبح سوقه يابسة خالية من الرطوبة، فيضطر الفلاحون للغدوِّ المبكر مع الندى قبل أن يدهمهم الشوب.
وحتى ربة المنزل تستنفر، لتوفيق أشغال البيت مع متطلبات العمل في الحقل، فتتأخر قليلاً عن الحواصيد لتنتهي من أعمال خضِّ الشكوة، وفرز الزبدة عن اللبن، ثم تلحق بهم وقد أعدَّت لهم وجبة الضحى، وتسمى (القراطة)، وهي عادةً من سليق الحنطة المطبوخة باللبن. كما تحضر لهم قربةً من لبن طازج مصفى (شنينة أو جريعة) ما زال حديث عهد بالشكوة، فيقال:
“يا متعة العبِّ للحاصود من لبنٍ
في ظل كدسٍ بيومٍ ضَحْوُهُ حام”
ويوم الحصاد يومٌ طويلٌ قائظ، يمتد من بزوغ الشمس إلى غيابها، وكما يقال: “من طلعتها لغيبتها” أي الشمس. ومع هذا الاستنفار وهذا اليوم الطويل المليء بالهموم والمتاعب، تنهض الهمم، وتشتد العزيمة بالأهازيج التي تبعث الحماس، وتجدد النشاط بين الحواصيد، وقد تركوا خلفهم أرتالاً من “الشُّمُول”، والشَّمل هو مقدار حَضْنَة من سوق القمح المحملة بالسنابل.يأتي بعدهم “المُقَـمِّر”، وهو عادةً ممن هم في سن الصبا، ليجمع الشمول ويكوِّن منها الكدس، فتجد عند رأس كل سهم كدساً أو عدة أكداس منسقة على مسار واحد، ليسهل على “الرواجيد” (جمع راجود) جمعها، وهم مجموعة من الشبان يستخدمون “المذاري” (جمع مذراة) لتعبئة الكدوس في العربة التي يَجرّها حصان عادةً، ثم نقلها إلى مقر البيادر، وهي أرض صلبة على أطراف القرية، لكل فلاح فيها موطئ معروف منذ سنين.
وبذلك يطمئن الفلاح على موسمه، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الدراس والتذرية والسنط والغربلة. وهنا، قبل أن يضع الفلاح حبوبه في أكياس (الشوالات)، يخزِّن بعضها لمونة الشتاء من برغل وطحين، أما الباقي، فيسوقه لتلبية حاجات المنزل الأخرى. ولا ينسى الفلاح الأطفال الذين يتواترون إلى “الصُّبَّة”، وهي كثيبٌ من القمح ممدد على شكل هلال، ليضع في حجور ثيابهم الرثّة “الشِّرِيَّة”، وهي ثلاث إلى أربع حفنات من القمح، يستبدلونها ببعض قطع الحلوى من البائع المتجول عندما يحضر.
النباتات الشائكة أو اللاصقة
كذلك، تسعى العاملة إلى وضع أكبر قدر من القطن في حجرها لتنقله إلى “الشلَّ”، حيث يقوم “الدَّحَايُ” بالضغط عليه بأقدامه بقوّة. والدَّحاي هو أحد الشباب الأقوياء، يتولى عملية رصِّ القطن حتى يمتلئ “الشلُّ”، ثم يقوم بتخييطه وتجهيزه لنقله إلى “القبَّان”.

لموسم القطن معانٍ ودلالات وأدبيات، تتمثل في الحرص على جني المحصول بشكل نظيف وعدم التهاون في العمل. فجميع العاملات في “الشَّدة” ينظرن بازدراء إلى كل من تتخلف أثناء العمل عن رفيقاتها، حيث يحرصن على مضاعفة الجهود وعدم التقصير.
الوضع هنا مختلف عن الحصاد؛ فالحصاد يحتاج إلى نشاطٍ أكثر وسرعةٍ في الزحف باتجاه واحد، في حين أن التقاط القطن تكون فيه الحركة بطيئة، والعاملات قريبات من بعضهن، إذ تجلس العاملة قرب شجيرات القطن الكثيفة، التي قد يصل ارتفاعها إلى أكثر من متر، مع كثافة في جوزات القطن المتفتحة من الأرض إلى الأعلى، فتلتقط من أمامها ومن يمينها ومن يسارها. وفي هذا التقارب بين العاملات وبطء الزحف، تتجاذب النسوة أطراف أحاديث شائقة عن قضايا تهمُّ الأسرة والمجتمع، مع عرض آخر شؤون القرية.
ولا يخلو الأمر من سِيَر الغرام، التي تتجدد مع قوة موسم القطن وارتفاع غلَّته، إذ كثيراً ما تُطلق الوعود وتُعقد الأيمان بأنه مع قدوم “فيش القطن” (الفاتورة) من المصرف الزراعي، ستتم خطوبة أو يُعقد قران. وعادةً ما تتم اللقطة الأولى في شهر أيلول، تليها ثانية أو ثالثة، ثم اللقطة الأخيرة “العفارة” قبيل أو عند “الضريبة” (الصبرة)، وهي ليلة يستيقظ فيها الناس على موجة برد قوية تهتري فيها كل المزروعات الصيفية، ومنها القطن.
حيث يتم جمع جوزات القطن التي لم تتفتح، لنقلها إلى البيوت وتيبيسها، لتتسامر الفتيات عليها في أواخر الخريف وبدايات الشتاء، وهن ينزعن عذوق القطن منها على ضوء مصباح كازٍ خافت، إما فانوساً أو “بلورة نمرة 3”.
الحطَّابات (جمع حطَّابة)
ما إن اصفرت أوراق الأشجار، وشحبت الأرض، واختفت الزرقة من السماء، وبدأت الريح تتقلب حاملةً رسائل تنذر بقدوم البرد، حتى يكون الخريف قد ارتحل متثاقل الخطا، والشتاء قد صار يطرق الأبواب، فتبدأ الأكف تتحسس الشهوة إلى فاكهة الشتاء.

في تلك البيئة ذات الشتاءات القاسية، لا بد من العودة إلى “الزُّور”، وهو التسمية المحلية للأراضي المزروعة على ضفتي نهر الفرات، لاحتطاب “الطَّرْفا” وشجيرات القطن الجرداء، فالحطب يكاد يكون المادة الوحيدة للطهي والتدفئة، لإحياء “التعاليل”، (السهرات) الطويلة المعطَّرة بعبق الهيل والقهوة المُرَّة، وسط سُحبٍ من دخان “الغازي” (التتن)، التي علت أجواء الغرفة، متزاحمة نحو “الطاقة” منفذها الوحيد إلى الفضاء. وصليل كؤوس الشاي الثقيل، والسوالف، والأحاجي، والألغاز، وألعاب الورق، ولعبة “الصينية” وغيرها، كل ذلك يضفي على السهرات طابعها الخاص. فتبدأ الفتيات والنساء في التباري في الاحتطاب، إما باقتلاع الشجيرة من جذورها، أو بقطعها بقدُّوم (جَدُّوم) تحمله بعضهن.
يذهبن جماعات، فيجمعن الحطب على شكل “حِزم”، ثم يقمن بترتيبها في حزمة كبيرة تُسمى “الصرقل”، تلفها المرأة بحبل طويل، لتساعدها زميلاتها في تحميلها على ظهر الحمار. والصرقل خفيف الوزن، كون الحطب أصبح جافًّا، لكنه يأخذ حجماً كبيراً، شبه أسطواني، قد يتجاوز قطره المتر وطوله المترين. يسير به الحمار، وخلفه المرأة تمسك به، وتتابع توازنه كي لا يسقط.

وقد تضطر المرأة لحمل حزمة كبيرة على ظهرها، تربطها بحبل، وتسير بها نحو القرية. ولا أبالغ إن قلت إن كبر حجم الحزمة لا يجعلك ترى إلا كومة حطب تسير، دون أن ترى حاملها. وتحرص المرأة على إحضار الحطب من الأشجار ذات السوق الغليظة، لتدوم “الجمرية” أطول.
وللحطب في البيت رمزية كبيرة، إذ إن كوم الحطب بجوار المنزل دلالة على أن فتاة هذا البيت نشيطة (“اِكْحِيلَة”)، تصلح أن تكون ربَّة منزل، ومتمكنة من تأمين احتياجاته، ومنها الحطب. فعندما يتقدم أحد لخطبتها، ويذكر محاسنها، يُنظَر إلى حطب أهلها، وهناك أمور أخرى تزكِّي الفتاة، منها اتساع الرغيف الذي تخبزه على الصاج، فيقال من محاسنها:
“هذا وِسْع رغيفها” (مع الإشارة إلى ذلك بكلتا اليدين).
وكثيراً ما تذهب أمُّ الخاطب في الصباح الباكر، قبل طلوع الفجر، في ليل شتوي بارد، لترى بأم عينها تلك الفتاة وهي تخبز، فتختبر براعتها في ذلك، إذ يجب أن يكون الخَبْز منتهياً مع طلوع الشمس.
واحتياطاً من هطول المطر ليلاً، تقوم النسوة بتخزين كميات كبيرة من الحطب داخل “الياخور”ـ أو ما يسمى بالقاووش، وهو غرفة فيها “تَـفِّـيَّة الخبز” (موقد الخبز)، لضمان سلامته من الرطوبة في الصباح الباكر.
والاحتطاب أمر لا مناص منه، مهما كانت ظروف المرأة، وقد سُجلت حالات ولادة لبعض النساء وهن في الحطب، حتى إن بعض النساء المتقدمات في السن يلمزن كنائنهن المتكاسلات اليوم بعبارة:
“كنَّا نَجِيب (نَلدُ) ونحن في الحطب!”
فها هي المرأة الرقية الفراتية، قصة كفاحٍ طويل، كانت وما زالت وستبقى جذوةً وهَّاجةً، تبدد الظلام، لترسم الضياء، حبّاً ينبض بالثبات والتجدد، على امتداد مساحة الوطن سورية الحبيبة، رغم ظلم الظلاميين، وجهل الحاقدين.