مكتبة (بور سعيد) الخابور.. نافذة على عالم الفكر

عبد الكريم البليخ

تأسّست مكتبة الخابور، أو كما يعرفها أهالي الرّقة السورية باسم مكتبة “بور سعيد”، على يد أحمد الخابور. وعلى الرغم من بساطتها وتواضع إمكانياتها، فقد تجاوز دورها حدود المكتبات التقليدية. لم تكن مجرد مكان لبيع الصحف والمجلات والكتب؛ بل كانت بوتقة ثقافية، جمعت أبناء الرّقة بمختلف أطيافهم. كانت المكتبة شاهدة على لقاءات الأجيال، وتبادلت في جنباتها الأفكار، وغُرست فيها بذور الوعي والمعرفة.
يعود تاريخ المكتبة إلى عقود مضت، وكانت منذ بداياتها ملاذاً للشباب والأطفال وكبار المثقفين على حد سواء. كم من طفلٍ وقف أمام واجهتها متطلعاً إلى عوالم خيالية حملتها صفحات الكتب، وكم من شابٍ جلس بين أرففها ليكتشف شغفه، وكم من مثقفٍ وجد فيها منبراً للتعبير عن آرائه.
لم تكن مكتبة الخابور مجرد مكان لشراء الكتب، بل أصبحت فضاءً مفتوحاً للحوار والنقاش. جمعت أروقتها مثقفين وأدباء من طراز رفيع، مثل الدكتور عبد السلام العجيلي والآثاري مصطفى الحسون، ممن كانوا يحرصون على زيارة المكتبة بانتظام، ليشتروا صحيفة أو مجلة، أو ليجلسوا في جلسة نقاشية تمتد لساعات. تطورت هذه اللقاءات لتصبح أشبه بمنتدى ثقافي مفتوح، يشارك فيه أبناء الرّقة المثقفون، يتبادلون الأفكار ويناقشون القضايا الأدبية والاجتماعية.
كان أحمد الخابور، الذي عرف باسم أبو زهرة، هو المحرك الأساسي لهذه الأجواء. رغم تواضعه الجم، كان يمتلك قدرة فريدة على التفاعل مع زواره من مختلف الشرائح. كان متحدثاً لبقاً، مستمعاً جيداً، وموجهاً ماهراً. أسلوبه البسيط، وإلمامه الواسع بالشأن الثقافي، جعل منه شخصية محبوبة لدى الجميع.

أحمد الخابور
لم يتلقَ أحمد الخابور تعليماً عالياً، لكن ذلك لم يكن عائقاً أمامه ليصبح أحد رموز الثقافة في الرّقة. كان مثقفاً بالفطرة، اكتسب معارفه من الحياة اليومية ومن علاقاته الواسعة مع أطياف المجتمع. أطباء، مهندسون، أدباء، فنانون، رجال أعمال، وشيوخ العشائر، كلهم كانوا جزءاً من شبكة علاقاته. هذا التنوّع في معارفه أكسبه رؤية عميقة، وجعل من مكتبة الخابور مركزاً للحوار بين الفئات المختلفة.
ظلت مكتبة الخابور رمزاً للثقافة والانفتاح، واستمرت في لعب دورها كمحور للنقاشات الجادة والحوار الفكري. رغم تراجع الموارد المادية للمكتبة، وضعف الإقبال على الصحف والمجلات بفعل التحولات الزمنية، إلا أن المكتبة صمدت بفضل إصرار صاحبها وعزيمته. لم تكن المكتبة مجرد مشروع تجاري، بل كانت أشبه بديوانية ثقافية، تحتضن مثقفي الرّقة، وتجسد روح المدينة.
كان أحمد الخابور يدرك أنّ المكتبة ليست فقط مكاناً لبيع الكتب، بل هي مساحة تعبير، ونافذة تطل منها الرّقة على العالم. جلسات الحوار التي شهدتها المكتبة كانت تنبض بروح المدينة، وتُعقد بروح الصداقة والتعاون.
يمكن القول إنّ أحمد الخابور هو أحد أبرز من تخرجوا من مدرسة الحياة. ورغم افتقاره إلى التعليم الأكاديمي العالي، فإن تجربته الحياتية وتعاطيه اليومي مع المثقفين والشخصيات العامة جعلت منه شخصية ذات بُعد ثقافي عميق. تعامل مع الجميع بروح الصداقة والحكمة، واستطاع أن يجمع بين التواضع والبساطة من جهة، والإلمام بالقضايا الفكرية والاجتماعية من جهة أخرى.

إن الحديث عن أحمد الخابور هو حديث عن رجل أعطى دون أن ينتظر المقابل. لقد وهب وقته وجهده لخدمة أبناء مدينته، وساهم في تشكيل وعي الأجيال. كان حلمه الوحيد هو أن يظل المثقفون قريبين من بعضهم البعض، وأن تبقى مدينة الرّقة حاضنة للفكر والإبداع.
واليوم، وبينما تمر السنون، نجد أن بصمة هذا الرجل لا تزال حاضرة في ذاكرة الرّقة وأبنائها. من الصحافيين إلى الكتّاب، ومن الأطباء إلى الفنانين، جميعهم يدينون بالفضل لهذا الإنسان الذي فتح أمامهم أبواب المعرفة.
ما الذي يمكن أن نقدمه لرجل أعطى دون مقابل؟ أقل ما يمكن فعله هو أن نكرّس اسمه وذكراه في ذاكرة المدينة، وأن نخلّد إرثه الثقافي والإنساني. إن أحمد الخابور لا يمثل فقط مكتبة، بل يُمثل قصة مدينة، وقصة إنسان كان همّه الأول هو أن يبني جسوراً من المعرفة بين أبناء مدينته.