Site icon المزمار الجديد

المفترون شرّ وبال

فواز عويد خليل

الفصل اﻷول ..

في بحر تسعينيّات القرن المنصرم، كنتُ وكيلاً قانونياً عن أحد المُوكِّلين، وكان موقوفاً أمام قاضي التحقيق في مدينة الرّقة السورية.. وقد زعم لي أنه كان له بذمة أحد اﻷشخاص مبلغاً مالياً موثقاً بموجب سند أمانة مستحق اﻷداء، ولأنه طالبَ المدين بمبلغ سند اﻷمانة ذاك لجأ المدين بدوره إلى الافتراء عليه بتقديم شكوى إلى أحد فروع اﻷمن في المدينة، لوجود علاقة وديّة أو ماديّة بينه وبين أحد المسؤولين العاملين فيه .. ينسب إليه فيها أنه قد اختطفه مع أحد أقربائه، وأجبراه على كتابة سند اﻷمانة المذكور والتوقيع عليه مكرهاً، وبناء على هذه الشكوى أُلْقِي القبض عليهما و توقيفهما ظلماً وعدواناً أمام قاضي التحقيق. 

وبناء على ما تقدم بدأت المرافعة عنه وتقديم عدّة طلبات إخلاء سبيل له، لكنها قُوبلت بالرفض، ما أثار حفيظتي واستيائي من قبل القاضي.

ولوجود علاقة صداقة ومودة بيني وبين القاضي دخلت إلى غرفته، وبدأت أوضّحُ له أنَّ موكلي بريء، وأن الدعوى كيدية وهي مجرد افتراء لكي يتهرّب المدّعي من دفع سند اﻷمانة المستحق في ذمته للموكل. ولأن هذه الدعوى مدعومة من أحد أجهزة اﻷمن تمّ توقيف موكلي وعدم إخلاء سبيله، رغم إطالة مدة توقيفه ظلماً، وهذا فيه إجحاف بحق موكلي وإنكار للعدالة.

أصغى إليّ القاضي باهتمام بالغ، حتى أنهيتُ حديثي، ثم قال لي: هل أنت واثق من براءة موكلك؟ فأجبته بحدة: كلّ الثقة.

قال: إذاً تعال غداً إلى مكتبي، واحضر استجواب موكلك وشريكه في الجرم  مجدداً ﻷثبت لك أنهما مجرمان، وقد ارتكبا جرمهما ولاذا بالفرار، إلى أن أُلْقِي القبض عليهما وتوقيفهما، وبعد ذلك لكل حادث حديث.

الفصل الثاني ..

في اليوم التالي كنتُ جالساً في غرفة القاضي، ويجلس أمامه موكلي منفرداً. طلب منه القاضي أن يشرح لنا كيف حدثت الواقعة بينه وبين خصمه بالتفصيل.

 قال: لي بذمة المدّعي مبلغاً من المال، وعندما طالبته بسداده امتنع عن ذلك وتعاركنا باﻷيدي، وفوجئت في اليوم الثاني برجال اﻷمن يبحثون عني وعن ابن عمي مما دفعنا للهرب خارج المدينة.

سأله القاضي: من أخبركما أنَّ رجال اﻷمن يبحثون عنكما؟. وكم كان الوقت آنذاك؟ صباحاً .. ظهراً .. مساءً.

قال الموكل: كنت مع ابن عمي نتناول فطور الصباح في بيتنا، وكانت الساعة تقارب من التاسعة صباحاً، فحضر إلينا أحد معارفنا من الجيران وقال لنا: هربا من المنزل حالاً.. ﻷن رجال اﻷمن قادمون للقبض عليكما، فهربنا فوراً من المنزل.

سأله القاضي: وإلى أي مكان ذهبتما، قال: ذهبنا فوراً إلى منطقة السباهية، ومن هناك استأجرنا سيارة نقلتنا إلى منطقة تل أبيض، حيث اختبأنا هناك عند أحد أقاربنا عدّة أيام، وبعد أن علمنا من أقربائنا أن رجال اﻷمن كفوا عن البحث عنا. عدنا إلى مدينة الرّقة، وبعد أيام فوجئنا بإلقاء القبض علينا وإيداعنا السجن.

سأله القاضي: وهل كنت مع شريكك طول الوقت حتى تمَّ القبض عليكما؟ فأجاب: نعم سيدي.

ثم خرج الموكل من غرفة القاضي إلى النظارة، ودخل بعده شريكه في الجرم فسأله القاضي: كيف علمت بأن رجال اﻷمن يبحثون عنك؟ وما هو الوقت؟ وأين كنت موجوداً ساعتها ومن كان معك؟.. قال: كنت أتناول الغداء في بيت أهلي وحدي الساعة الواحدة ظهراً، وجاءت إحدى جاراتنا وقالت لي: اهرب بسرعة رجال اﻷمن يبحثون عنك، وهربت إلى منطقة الدرعية، واختبأت في بيت أحد أقربائي عدّة أيام، حتى كفّ رجال اﻷمن البحث عني .. وبعد ذلك بعدة أيام أُلْقِي القبض عليّ.

سأله القاضي: وهل كنت وحدك طول مدّة هروبك أم كان شريكك معك؟ أجاب: كنت وحدي ولم أكن أعلم أين كان شريكي مختبئاً طول مدة تلك الفترة، عندها أمر القاضي بإعادته إلى النظارة موقوفاً.

الفصل الثالث ..

بقيت مع القاضي لوحدنا في غرفته. نظر إليَّ مبتسماً وقال: ما رأيك بأقوال موكلك وشريكه؟ وهل هي متطابقة؟ وهل يمكن تصديقها؟ قلت بدهشة: بالتأكيد هما كاذبان، ولا يمكن تصديقهما، وأضاف القاضي: الحقيقة أن موكلك هو المدين للمدعي بموجب سند أمانة مستحق اﻷداء .. وعندما طالب موكلك بردّ مبلغ السند له، هدده بالشكوى إن لم ينفذ ذلك، تآمر موكلك مع شريكه، و استدرجا المدعي الدائن إلى مكان أعدّاه سلفاً بحجة تسليمه المبلغ هناك واسترداد سند اﻷمانة منه، وكتابة سند جديد يُثبت براءة الطرفين تجاه بعضهما من كل حقّ أو طلب يتعلّق بسند اﻷمانة ذاك، ولكنهما اعتديا عليه هناك وسلباه سند اﻷمانة وأجبراه على كتابة سند يُثبت براءة موكلك من المبلغ المدين به للمدعي، وبإمكانك استجواب موكلك حول صحة هذه الواقعة.

خرجت من غرفة القاضي وأنا في حالة ذهول ودهشة من جرأة بعض البشر على خلق جرائم الافتراء والكذب وتزوير الحقائق.. التي تعجز عنها شياطين الإنس والجن.

ذهبت مباشرة إلى غرفة النظارة حيث يوجَد الموكل و شريكه، و واجهتهما بتناقض أقوالهما أمام القاضي وبالحقيقة المرة التي كانا يُخفيانها عني وعن القضاء .. فاعترفا بصحة ذلك نادمين. ولكنَّ الحقَّ يأبى إلا أنْ يظهرَ ويزهقَ الباطلَ ولو بعد حين.

 فلا تيأسوا من تأخّرِه ..

محام وفنان تشكيلي سوري

Exit mobile version