المقام

محمد الحاج صالح
لا أهمية لهذه القصة لولا أنها ولدت في “سجن السد” الداعشي الفظيع في الرّقة، حيث كان ذبح المعتقلين ورمي جثثهم في نهر الفرات ممارسة يومية. لا شكّ في أن قيمة القصة الفنية منخفضة جداً. هي بالكاد تفي بشروط الحكايات الشعبية التي لا تخلو من الوعظ ثقيل الدم. أعتقد أنكم ستدركون قيمتها إذا ما تصورتم معي حلقةِ معتقلين لدى داعش يلتمّون حول شيخ رقّاوي يأكل الباركنسون عقله وجسده ويخاطر بروحه وأرواح من معه ليخبر هذه الحكاية ويحمّلها كلّ غلّه ضد هؤلاء المتوحشين المتخلفين. تصوروا هؤلاء المعتقلين متحلقين يحتسون بآذانهم كلمات الشيخ وعيونهم في كل لحظة تسترقّ النظر خوفاً من أن يفاجئهم عنصر من سجّاني داعش. روى لي هذه القصة أخي أحمد الذي كان مسجوناً لدى داعش في ذاك السجن بانتظار قصّ الرقبة.
نصحني الناشر بعدم نشر هذه القصة في مجموعة “آخر ما حرّر”، فأذعنت.
…
لا أستطيع إبعاد تشبيه علاقة الشيعة والسنة بالقرد وصاحبه. في الخمسين سنة الأخيرة أحرز السنّة المتشبّثين بسنيّتهم دور القرد، بينما مارس الشيعة المتشبّثين بشيعيتهم دور مُلعِّب القرد. في التاريخ الأبعد كان السنّة أكثر الوقت هم المُلعّبين وكان الشيعة هم القرد الذي يَعجن عجين الفلاّحة. انقلبت الآية إلى محض ثبات ورسوخ منذ أن صعد الإسلاميون من الجانبين وبالأخص منذ انتصار الثورة الإيرانية الشيعية 1شباط 1979 واستيلاء جهيمان العتيبي على الكعبة 20 تشرين الثاني 1979. منذ هذا التاريخ استولى الشيعة نهائياً على وظيفة الملعّب. وأضحت إيران مركز التدريب.
يروي صديق أن أبو إسماعيل سجنه الدواعش بتهمة أنّه مربي حَمام. تدرون أن روايات تاريخية عديدة تروي أن القاضي الفلاني من المذهب الفلاني رفض شهادة الشاهد لأنه كشّاش حمّام. تدرون أيضاً أنّ التبرير الذي كان يرد في تلك الروايات هو أنّ كشّاش الحمام من موقعه على السطح يكشف على نساء الجيران ويراهنّ وهنّ متبذّلات. يبدو أن أحد الأخوة الدواعش قرأ في كتاب أصفر شيئاً من هذا، إضافة إلى أنه لم يرَ أبو إسماعيل يصلي صلاة الجماعة، فاعتقل أبو إسماعيل صاحب محل الخردوات في شارع القوتلي في الرّقة. أبو إسماعيل سبعينيّ نحيف، طويل القامة، محدودب قليلاً. وكان يربي الحَمام بالفعل على سطح بيته. وكان يكشّ حَمامه ويتمتع برؤية رفوف الحمام تتقلب في السماء إلى أن يناديها ويشير لها فتهبط وتحطّ على السطح واحدة بعد الأخرى.
كان أبو إسماعيل دائم الدمدمة استنكاراً لأوامر الجلاّدين لنا بطأطأة الرأس والاتجاه نحو الحائط عندما يدخل أحدهم. مع الوقت وبعد جلسات تعذيب عديدة صار الجلادون لا يلقون بالاً لدمدمة أبو إسماعيل ويحيلونها إلى كبر سنه وأمراضه، خصيصاً أن رعشة يديه واهتزاز رأسه كانا ظاهران. أما المحتجزون الآخرون فكانوا يعلمون جيّداً مدى كره أبو إسماعيل لهم. إذْ فضلاً عن دمدمته التي ما هي إلا سلسلة شتائم لا تتوقف، كنا نسمع بعض مفرداتها فنرص أكتافنا خوفاً من أن يلتقط الجلاد ما يقوله فنتعرض للعقاب الجماعي. حقيقةً كان أبو إسماعيل فَلِت اللسان صريحاً متى ما شعر أنّ الجلسة محفوفة. باختصار يمكن القول إنَّ أبو إسماعيل مطزّز على الدنيا وعلى الدواعش معاً. كان مثلاً يكرّر إنه “متبرّع برقبته للخرا اليابس” يقصد الدواعش.
لم أرَ متحدّثاً يحوّل كل شيء إلى قصة مشوّقة ممتعة مثله. هذه واحدة من قصصه. قال وهو يشير بيده أن اقتربوا، وهي الإشارة التي نعرف منها أنه سيخبرنا بقصة ما. قال:
من العراق يأتينا الخير ومنه يأتينا الشر في كل التاريخ. في أيامنا هذه خير إخوانا العراقيين يطلع واحد بالميّه وشرّهم 99. اسمعوا. كان هناك تاجر سوري متوسط الحال. تجارته محصورة بين سورية والعراق. في يوم من الأيام قال لنفسه “عجيب أمري! كل تجارتي مع عراقيين ولا أعرف عن العراق شيئاً. فلمَ لا آخذ امرأتي وأولادي ونسوح في بلدنا الثاني العراق. آن أوان أن أكافأ نفسي وعائلتي بعد كل هذا التعب”. وفعلاً ساح في طول العراق وعرضه. ما ترك مدينة في العراق تعتب عليه إلا وزارها. وفي يوم من الأيام شافْ مزار ملموم ومزين أفضل زينة. تعرفون المقامات في العراق حلوة ومقيْشنة. وكان ذاك اليوم آخر أيامه في العراق، كما كان قد خطط. قال نفوت نقرأ الفاتحة ونتبرع بما يهدينا الله عليه. كانت كَمْشة المال التي دسها في قفص الضريح محترمة، يعني تقريباً كل ما تبقى لديه من عِمْلة عراقية. رآه قيّم المقام ورأى كميّة النقود وعلم أنه سوري. فعرّفه بنفسه وأصرّ على استضافته وحلف أيماناً مغلظة على ذلك. تعرفون أهل العراق كرام وكرمهم مفرط. أحبّت امرأة الضيف امرأة المضيف. وتعرفون لما النساء تتحابّ يخضع الرجال. كلما طرا الضيفُ السفر حلف المضيف. والأهم أن أولاد المُضيف وأولاد الضيف كانوا مسرورين ومنسجمين تماماً. وكان لدى المضيف “كُرّ” أحبّه أولاد الضيف كثيراً.
في النهاية لا بد من السفر. وهنا حصلت المناحة من قبل الأولاد. عشقوا الكُرّ ولا يريدون تركه. تحوّطوا بالكُرّ وحضنوه وراحوا يبكون. أقسم المُضيف أن يأخذوا الكُرّ معهم إلى سورية هدية للأولاد، وهكذا كان.
كان حبّ الأولاد للكُرّ عظيماً فعلاً، ما إن يعودوا من المدرسة حتى يصبح شغلهم الشاغل إطعامه وتدليله ودندشته بالشرائط والتمائم. وفي يوم من الأيام وببساطة مات الكُرّ، فحدثت المناحة الكبرى، وتشبث الأولاد بجثة الكُرّ. لإرضاء الأولاد؛ وبعد هات وخذْ دفن الأب الكُرّ دفناً لائقاً. وظل الأولاد مهتمين بقبر الكُرّ واستمروا بتزيينه. وكي يفرح الأب الأولاد قرّر إشادة قبر وأعمدة من مرمر وسوّره بقفص. الرجل غنيّ إلى حد ما كما قلنا. زيّن الأولاد مقام الكُرّ بالأشرطة الخضراء تقليداً لما رأوه في العراق. صار القبر بهجتهم.
رأى سكان المنطقة مقام الكُرّ وتفكروا كثيراً. فما دام هذا الرجل ميسور الحال، وما دام القبر يبدو لوليّ عظيم، فإنهم مع الوقت أضمروا في أنفسهم أن الرجل يخفي عنهم سرّاً، وأن الله حباه بالمال كرامة للمقام ربما. شيئاً فشيئاً صار المحتاجون والمرضى والآملون برغد العيش والعشاق وغيرهم يأتون إلى المقام. يقرأون الفاتحة ويتلون الأدعية، ويقذفون بقطع النقود داخل القفص.
المال يحبّ المال. سُرّ الرجل بمصدر المال الجديد لا شكّ وساق فيها. اعتبر أن الله قدّر وأهدى، حتى أنه بنى مقاماً يليق مزيناً بالقيشاني والصحائف المطلية بالذهب والفضة تشبه ما رآه في العراق. أصبح المقام مقاماً حقيقياً. وكثر المال، والمال يلدُ مالاً. سار الأولاد على درب أبيهم في حبّ المقام والمال. عاشوا في بحبوحة ودرسوا وتزوج بعضهم، ولكنهم ظلوا أمينين على حبّ طفولتهم. صارت العائلة من العائلات المعدودة ذات النفوذ والمال الكثير، الكثير.
وفي أحد الأيام جاء فجأة الصديق العراقي الكريم، مانح الكرّ للزيارة. ورأى المجد والغنى الفاحش لصديقه، ورأى المقام وجموع الناس الزائرة. قال لصديقه: كأنك صرت أيضاً خادم مقام؟ غبط الضيف صديقه كثيراً، وسأل عن المقام، وعن اسم الولي المدفون فيه.
قال السوري خادم المقام لصديقة العراقي خادم المقام الآخر: والله يا صديقي ما رح أخبي السرّ عليك. هذا المقام للكُرّ الذي أهديته للأولاد تلك السنة البعيدة. ثمّ حكى له الحكاية من أولها إلى آخرها. ضحك خادم المقام العراقي كثيراً…كثيراً، وقال لصديقه: يا صديقي، يجب أن تعلم أنَّ المقام الذي أخدمه هُناك في العراق هو قبر الجحش أبو الكُرّ.
طبيب وقاص سوري