قص

المَلْكُوف

موسى رحوم عبَّاس

عاصفةٌ من الغبار، بل زوبعة تتبعه أنَّي اتَّجه، في الطِّريق إلى المدرسة، وفي العودة منها، وهو ذاهب إلى دكَّان حسين الجابر، وقد أطبق كفَّه بقوَّة على القروش القليلة التي استطاع الحصول عليها غالباً بأساليب يمكن أن نسمِّيها “ابتزاز عاطفي” ، ادعاء المرض، الوجه الحزين المثير للشفقة، مَلْءُ إبريق الوضوء للجدِّ بالماء السَّاخن، ترتيب أغراض الوالد المرتَّبة أساساً، وما أنْ يخطف تلك الفرنكات حتى ينطلق كالسَّهم، ويعود وهو يتلمَّظ بالسَّكاكر الحمراء الكبيرة المجلوبة من حلب أمِّ العجائب والغرائب، وبمَكْرٍ ظاهرٍ يلحسُ أصابعه التي تعرَّقتْ من شدَّة حرصه على عدم ضياع أيِّ بقايا سُكَّر علقَ عليها أثناء إعصار العودة،  ساحة “حوشنا” الكبير ترابيَّة، وتخلو من أي شجرة أو عِرْقٍ أخضر، رغم أن الفرات جارنا، لكنَّنا نجلب ماء الشُّرب على رؤوسنا أو على ظهور حميرنا، ولهذا نضنُّ به كثيراً، تلك السَّاحة بها آثار أقدامه مختلفة عن آثار أقدام خلق الله، مجرَّد حُفَر صغيرة؛ لأنَّه كائن لا يعرف المشي، وكانت أمِّي تقول هذا الولد ينتمي لفصيلة الطُّيور وليس البشر؛ ولهذا استحقَّ لقب” المَلْكُوف” الذي أطلقه عليه جدِّي الذي لا يعود للنَّوم بعد صلاة الفجر، وينتظر شروق الشَّمس؛ ليتخذَ مجلسه المعتاد في “المِشراقة” وهو مكان محجوز له عندما يتوافد أصدقاؤه مبكِّرين، وتبدأ أباريق الشَّاي رحلتي الشِّتاء والصَّيف كما كان يسمِّيها الشَّيخ مصطفى إمام الجامع، وأحد أعضاء تجمُّع “المِشراقة” وأحد الذين استحسنوا اللَّقب الجديد لأخي محمد مُهاب، وأضاف الشَّيخ أنَّ هذا الاسم “محمد مُهاب” لا يليق بك، والشَّيخ نفسه من سمَّاه به، تيمُّناً بأحد مشايخ الصُّوفية النقشبندية الكبار في مَنبِج وحمص السُّوريتين، قال ذلك وهو يبعد الغبار الذي أثاره “المَلْكُوف” بمروره قريباً منهم، يحاول ذلك بوضع كفِّه على كأس الشَّاي السَّاخن أمامه، فهو يحبُّ الشَّاي بارداً أو قريباً من البارد!

نحن في القُرى لا نحبُّ الأسماء المركَّبة، ونراها عادة حَضَريَّة، بل حلبيَّة بالتَّحديد؛ لذا وفَّر علينا اللقبُ الجديدُ لأخي عناء مناداته بمحمَّد مُهاب، وصرنا نناديه بالمَلْكُوف.

 في المدرسة كان هو الأسرع في الإجابة، وبخاصَّة في جدول الضَّرب، بينما نحن نتلكأ، نتلعثم، فننطق الجواب بصورة معكوسة غالباً؛ فتصبح الثَّلاثة والسُّتون ستَّة وثلاثين، والحادية والثَّمانون ثمانية عشرة، وافتح “إيدكْ ولا حمار!” وترتفع العصا، وتأكل لحم أيدينا، ننفخ عليها، يتطاير الرَّذاذ من أفواهنا الصَّغيرة، تمتلئ أكفنا بدموعنا مختلطة ببصاقنا، تبرد الأيدي، ولكنَّها تظل مُحْمرَّة لبعض الوقت؛ فنفركها بالتُّراب بعد الدَّوام، عدا المَلْكُوف يده سليمة باردة، فيقول له المعلِّم الحمصي حيدر، يا “ملقوف” اسحبْ هذا الحمارَ من أذنه، ومُرَّ به على الغرفة الثَّانية في المدرسة، وقل لهم: هذا جحش كبير، لا يعرف جدول الضَّرب، عندها يقفز المَلْكُوف كقردٍ مُدرَّب ممسكًا بأذن (م. ص) رغم أنَّه طويل، ومنظره لا يدل على أنَّه طالب في الصَّف الخامس، حتى إنَّ شاربيه قد نبتا مثل حقل شعيرٍ قام ببذاره رجلٌ بخيلٌ، هكذا وصفه مدرِّس اللُّغة العربيَّة الذي قال عن نفسه بأنَّه يكتب الشِّعر، وقرأ لنا قصائد لم نفهم منها سوى أنَّها تنتهي بالحرف نفسه، وتشبه الأغاني، واستغربنا حماسه الشَّديد أثناء الإلقاء، وبخاصة عندما قال فلسطين والثَّورة …وأشياء أخرى لا أذكرها، وخِفْنا من حركات يديه، وهو يهدِّد أناساً لا نعرفهم، نسيتُ أنْ أخبركم بأنَّ (م.ص) لم يعدْ إلى المدرسة في اليوم التَّالي، وسنراه لاحقاً في بيروت يحمل مسدَّساً، وعليه بِزَّةٌ مموَّهة، بأزرار لامعة.

في جامعة حلب التي التحقنا بها أنا وأخي، اضطررتُ إلى العودة لاسمه حسب السِّجلات المدنيَّة، وصرتُ أناديه في مدرَّج ابن خلدون، أو مقصف كليَّة الآداب، وحتَّى في حيِّ الجميليَّة الذي استأجرنا فيه غرفة مواجهة لثانويَّة التَّجهيز الأولى، أو ثانويَّة المأمون كما هو اسمها في اللُّوحة العتيقة المعلَّقة على بوابتها الشَّرقية، وعندما سألتني أم خالد كلزية صاحبة البيت عن اسم أخي قلت لها: المَلْكُوف؛ فتجمَّدت عضلاتُ وجهها مستنكرةً؛ فاستدركتُ سريعاً تلك الهفوة، إنَّه مُحمَّد مُهاب، مُهاب؛ بدا عليها الارتياح عندها، وأعطتني المفتاح، وهي تتلو علينا شروطها: بنات عالشُّقة ما في، تدخين ما في، صراخ وضيوف ممنوع، … واكتفينا بهزِّ رأسينا بالموافقة، ونتمتمُ، بناتْ، بناتْ، بناتْ!

– ليش عم تبربروا خَاي؟

– لا، أبداً، ما في شي!

– موافقين على شروطنا؟

– نعم، نعم، أصلاً نحن لا نعرف أحداً هنا، لا ذكوراً ولا إناثاً.

– إي، عَالْ، كويس كتير، كاهني المفتاح، ولا تعطوه لحدا!

في حلقة البحث التي يديرها الدُّكتور سعد الدِّين، وهو مهتَّمٌ بمسَاقِ الكتابة الإبداعيَّة، كانت المهمَّة كتابة قصة؛ لذا شرح الدُّكتور العناصر من زمان، ومكان، وشخصيات … فأمطره أخي محمد مُهاب بوابلٍ من الأسئلة، استقبلها بصدر رحب، ثم بدأ يضيق ذرعاً بها؛ فكتبتُ ورقةً صغيرةً دسستُها من تحت الطَّاولة لأخي، لعلَّها تلجمُ هذا الهذرَ منه، لكنَّي سقطتُ بعد أنْ اختلَّ توازني مرتطماً بأرضية القاعة الصُّلبة محدثاً صوتاً لفتَ نظر الجميع، رفع الدُّكتور سعد الدِّين يده طالباً الصَّمت، وهي عادةٌ له، يكتفي بها دون كلام، تقدَّم بخطاً ثابتة، والتقط الورقة، وبدأ بالقراءة منها، تعلوه ابتسامة خفيفة، قرأ:

“لقِف، لَقْفاً، لقَفَاناً، أي اختطف، أخذ بسرعة ما رُمي إليه، قال تعالى: “وألقِ ما في يمينك تلقفْ ما صَنَعُوا”*  في نهاية المحاضرة كنتُ في جلسة تحقيقٍ في مكتبه، أفسِّرُ ماقمتُ به، وأن لقب أخي المَلْكُوف، فنحن أبناء الفرات نقلبُ القاف جيماً مصرية،  أو المَلْقُوف، وعندما رأى ارتباكي وتلعثمي في تبرير سلوكي غير المُنضبط في المحاضرة، ضحك، وأضاف: أظنُّها يا صديقي! وهو ينادي معظم طلابه بهذا، أظنُّها مَلْقُوف بمعنى لاقِف، أي اسم مفعول بمعنى اسم الفاعل؛ لم أعلِّقْ، لكنَّني أدركتُ أنَّه غيرُ غاضبٍ منِّي، وقررتُ العودة للَّقب القديم حتى “لو أمطرتْ بطِّيخ”.

 في جلسة التَّقويم، نادى علينا الدُّكتور سعد الدِّين حسب جدول الأسماء؛ لنقرأ قصصنا، لكنَّه حينما وصل إلى اسم مُحمَّد مُهاب العامريّ، قال الآن دور “المَلْكُوف” نظر الطُّلَّاب إلى بعضهم، فهي المرَّة الأولى التي يسمعون بهذا الاسم، فأشار إلى محمد مُهاب طالباً منه الخروج للمنصَّة، خرج كعادته كالسَّهم، لكنَّ القاعة مكسوةٌ بالرُّخام لا تثير الغبار مثل دروب قريتنا، وعندما وقف خلف المايكروفون، مسح  بيده على لحيته متوجهًا لي، وهي حركةُ تهديدٍ لازمته من المرحلة الابتدائيَّة، جاء في القصَّة، ربما أحذف بعض المقاطع، لاعتبارات أمنية، كما يقتضي الحال أنْ نقول:

“لأنَّني “مَلْكُوف” فلا صبرَ لديَّ لإبقاء سرِّ القصَّة حتى نهايتها، كما يفعل هيتشكوك على سبيل المثال، وسأكشفه الآن أمامكم، بطل قصتي هو (م . ص) وقد اغتيلَ في بيروت، نعم، اغتيل، مثل معظم أبطال الحكايات، لكنَّه ليس أسطورة ولا سوبر مان، هو صديقي، وأنا مُحمَّد مُهاب العامريّ شريكٌ في عملية الاغتيال هذه، أعترفُ أمامكم، وأنا بكامل أهليتي القانونيَّة، اسحب هذا الجحش من أذنه، ودُرْ به صفوف المدرسة، أخْبِرِ الطُّلاب جميعاً بأنَّه جحش برجلين لا أربع، لم يحفظْ جدول الضَّرب، سقتُ “الجحش” من أذنه، كما  يفعل بالسَّوائم، بعد أن انحنى راكعاً؛ كي أصلَ إلى أذنه، وصرختُ متفاخراً، هذا جحش، وبقي ساكتاً مستكيناً لِقَدَرِهِ، ضحك الأطفال، وهم يضحكون عادةً، ما أكثرَ ما يضحك الأطفال! إذا وقع أحدهم عن الكرسيِّ، يضحكون، إذا لسعتْهم عصا المُعلِّم، يضحكون مع انهمارِ دموعهم، إذا سقطوا في بركة الوحْلِ أمام المدرسة شتاءً، يضحكون، حتى وهم جائعون، يضحكون؛ فينسون الطَّعام، عندما لا يجد أهلهم ما يجعلونه عشاءً لهم، يضحكون، ويُخْفُون وجوههم باللُّحُفِ الثَّقيلة؛ لذا ينامون جائعين، لكنَّهم ضاحكون!

(م . ص) هجر القرية والمدرسة والدُّروب المُتربة، لم تعجبه حياة الجحش، رآه بعض أهلنا في مخيم تل الزَّعتر بلبنان، وقال هذا البعض، والحديث على ذمَّة الرَّاوي، بأنَّ أبا عمَّار العامري، وهذا اسمه الجديد، وهو الاسم الثَّالث له، كان يرتدي بِزَّة مُموَّهةً، ويدسُّ مسدَّساً على جنبه الأيمن، وعلى صدره أشياء لامعة، حتى إنَّهم ظنُّوا أنَّه مع الفدائيين، لكنَّه لم يبحْ لهم بشيءٍ، واكتفى بدعوتهم للعشاء في مطعم كبير على البحر، قالوا اسمه” مطعم دبيبو” ولو أنهم ليسوا متأكِّدين من الاسم، لكنَّهم وصفوه بأنَّه على الرَّوْشة في بيروت، عندما كانت بيروت، وأصرَّ على دسِّ مبلغ صغير في جيب أحدهم معتذراً؛ لأنَّه مضطرٌ للانصراف، (م . ص) رأيتُ صورته مشنوقةً على عمود كهرباء، قال بعضهم بأنَّه بطلٌ، وقال آخر كان شجاعاً، وسمعتُ من جيرانه في المُخيَّم، بأنَّه قد اغتيل في ليلة شتويَّة قاسية، ووُجِدَ ينزفُ في غرفته، ما لبث أنْ فارق الحياة، وأكَّد الجيران، أنَّهم لم يسمعوا صوت إطلاق النار، ولم يسمعوا صراخاً لافتاً ليلتها، ولأنَّني “مَلْكُوف” لم يسعني الصَّبر حينئذٍ حتى أعرفَ، متى كان الاغتيال، وهل كانت لديه زوجة أو أبناء، وحتى صديقة ما،  لكنَّني متأكِّدٌ بأنَّه في مُخيَّم تل الزَّعتر، ولا أعرف الشَّارع، فالشَّوارعُ هنالك مقاطعاتٌ لها ألوان مختلفة، وحتى أعلام مختلفة”.

بينما كان المُدرَّج يضجُّ بالتَّصفيق، والدُّكتور سعد الدِّين يرفع يده عالياً، كان “المَلْكُوف” للمرَّة الأولى بحياته، يتَّجهُ بهدوءٍ شديدٍ إلى مكانه، وثمَّة دمعة تلمع في عينيه خلف جدار التَّجلُّد والتَّوجُّس!

 * سورة طه 69

أديب سوري مقيم في مملكة السويد

عضو اتحاد كتَّاب السُّويد (SFF)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى