الِحْـيَـار

عبد الحميد الخلف الإبراهيم

الحيَار عُرْفٌ اجتماعي عربيّ، يسري في أعراف كثير من القبائل، يعطي ابنَ العمّ الحقّ في الاستئثار بابنة عمّه زوجةً، ولو بغير رضاها.
ولا يتطلّب الأمر إلّا أن يضع ابن العم دائرة طباشير قوقازيّة على ابنة عمّه، فلا يقربها سواه، فإنّ تجرّأ أحد على ذلك، فإنّه يكون قد وضع نفسَه، أو وضع أخاه، أو أباه، أو قريباً له، في دائرة الانتقام.
ويكون الاستعدادُ للقتل شرطاً لاحترام إرادة المُحَيِّر، إذْ لا يجرؤ العاقلُ على الدّخول في دائرة الخطر، إذا عرف أنّه مُحْدِقٌ به.
والقبائلُ السّورية، الشّمالية خاصّةً، ما زالت تعرف هذا العُرف الجائرَ، فيرتكبُه العربيُّ والكرديُّ والتّركمانيُّ.
وفي الغالب تتعرّضُ الجميلاتُ لسلطان هذا العُرف أكثر من غيرهنّ، ويكون القتْل مصير من يتجاوز هذا العُرْفَ، وقد يذهب ضحيةَ هذا العُرفِ، من لا ناقة له ولا جمل فيه.
وقد استمرّ هذا العُرف (القابيليّ) في القبائل بالرّغم من مخالفته الشّرائعَ المتعاقبة!
وثمّة في حياتنا، وحياة من حولنا، قصصٌ كثيرة محزنة من قصص الحيار، فأحد أصدقائِنا كان في أوّل الشّباب، وأنهت حياتَه، رحمه الله، رصاصاتُ الحيار، فور إنهائه دراستَه الجامعيّة، وبدئه عملَه الوظيفيّ، كَمَنَ له القاتلُ أمام المجمّع الحكوميّ في الرّقّة لدى ذهابه إلى عمله في الصّباح، ولم يكن له من ذنب إلا أنّ أخاه تزوج فتاة كان لها قريب راغب فيها، وحيّر عليها!
وكثيرٌ من علاقات الحبّ أودت بها أهواء الحيار، خوفاً من الموت العاجل غير الآجل.
وربّما أودى الحيار بالطبيعة البشريّة لامرأة، إذا كان ابن عمّها لا يريد أن يجبرها على الزّواج منه، ولكنّه في الوقت عينه لا يريد أن يكسر كلمته، فيتركها، تُمضي إرادتها في رفضِها له في عقاب، ما أسوأَه من عقاب!
أعرفُ رجلاً فاضلاً، من قبيلةٍ تُجاوِرُنا، كان صديقاً لأبي، وكان معروفاً بالطّيب والوجَاهة والعقل والمقام، توفّي بعد عمر قضاه في الخير، ولا نزكّي على الله أحداً، أوقفَ ابنة عمّه، أخت شيخ القبيلة، لأنّها رفضته، فكبرت ولم تتزوّج.
وكان للتّركمان شيخٌ، أقَرَّهُ كلّ تركمان المنطقة الشّمالية في سوريّة على زعامة القبائل التّركمانية، هو الحاجّ نعسان آغا بن كال محمد بن مصطفى باشا، من الحاج علي، أهل العلي باجلية، كانوا تركوا المنطقة إلى مناطق حلب لخلاف مع أقاربهم في شرق البليخ، وأنهى الخلاف ياسين العبيد الذي كان يرى الحاجة إلى (العُصبة) أهمَّ من الخلافات.
وكان للحاج نعسان قصّة مع الحيار!
كان أهلُ حلب من باشات التّركمان يزورون حمّام التّركمان في بعض الأعياد والمواسم والمناسبات، وبخاصّة مناسبات العزاء، منذ أن أنهى ياسين العبيد الخلاف بين الباجليّة والطوبال، وكان الحاج نعسان وابن عمّه زكي باشا وآخرون يواظبون على ذلك، وكان أهلُ حمّام التركمان يحتفلون بهم احتفالاً يليق بمقامهم، فكنّا نحن مثلاً لا نرى المختار لدى قدوم الحاج نعسان أسبوعاً أو أسبوعين.
وذات يوم خطَبَ أحدُ رجال المنطقة، من غير التّركمان امرأة تركمانيّةً جميلةً من
مناطق حلب، فاعترض الحاج نعسان على ذلك، لكنّ أهلَها أتمّوا الزّواج خلافاً لإرادة الشّيخ!
غضب الشّيخُ الحاج نعسان، فقال لجدّي خلف الإبراهيم لدى زيارتِهِ حمّامَ التّركمان: اذبحوه! فقال له خلف الإبراهيم: إنْ شاء الله!
ومرّت سنوات كان الحاج نعسان كلّما زار حمّام التركمان يسأل: لماذا لم تذبحوه، فيتعلّلون بأنّهم لم يجدوا فرصة لذلك!
وجاءت الفرصة يوماً!! كانت عمّتُنا التّركمانيّة وزوجها في البوسطة الزّرقاء القادمة من الرّقّة إلى تل أبيض مروراً بحمّام التّركمان، وصادف أن تعطّلت البوسطة في وسط القرية!
أسرع من رآهما إلى خلف الإبراهيم يخبرونه بالأمر ويسألونه: هل نذبحهم؟
سكت الشّيخ لحظاتٍ يقاوم نزعات الشّرّ في نفسه، وفي نفوس القوم الذين كان بعضُهم مستعدّاً للشّرّ، وأرجّح أنّ شريطاً من ذكرياتِ حُبٍّ مرّتْ في خيال الشّيخ، قبل أن يقولَ لهم: لا! بل ادعوهما إلى البيت!
ولبّى الرّجل الدّعوة متوجّهاً إلى المضافة، وخرجت النّساء لاستقبال عمّتنا التي كان يمكن أن تكونَ أرملة القتيل!
وقام القومُ بواجب الضّيافة على أحسن ما يُرام، ثمّ أوصلوهما في وقت متأخّر إلى قريتهم قربَ تل أبيض.
ولما وفد الحاج نعسان آغا إلى حمّام التّركمان كما اعتاد في كلّ عام، سأل سؤالَه المعتاد: لماذا لم تذبحوه؟ أجابوه ضاحكين لقد صار الرّجل صِهرَنا، وصرنا أخوالَ أولاده!
وتقبّلَ الحاجّ نعسان ذلك على مضض!
وصارت عمّتُنا تزورنا في الأفراح والأتراح.
ومرّت سنين.
حدَثَتْ في حمّام التركمان مشكلاتٌ تعود إلى مسائل الحيار، انتهت جميعاً بالتنازل عن نعرة الشّرّ، إلى جانب الخير، ولو حدث ذلك في هذه الأيّام المَقيتة، لكان الشّرّ سيّدَ المواقف.
وكنت أسمع بعمّتنا التي تأتي إلينا وأولادها أو زوجها في بعض الأعراس، أو في مناسبات العزاء، ولم يصدف أن رأيتها.
وذات يوم كنت في تل أبيض صباحاً، مع المرحوم تركي الخليل المصطفى، عندما وصل الباص القادم من حلب، ونزلت منه امرأة كبيرة السّنّ، نحيفة القوام، طويلة كالرّمح، لم ينقصْ سنُّها من حُسْنِها!
قال لي تركي: هذه عمّتُنا مايا تعال نسلّم عليها!
وتقدّمنا منها، سلّمنا عليها، وسألها المرحوم إذا كان سيأتي أحدٌ لاستقبالها، فقالت: لا أحد يدري بقدومي، فحملنا حقائبها، وأوصلناها بسيارته.
قلت لتركي لدى عودتنا: لقد كان الحاجّ نعسان آغا محقّاً في الحيار!
رحمهم الله جميعاً.
شاعر وكاتب سوري مقيم في الدوحة