مقالات

تقشير الخيار بالسيف البتار

عبد السلام العجيلي

لقيتُ منذ أيام معلّمي القديم الأستاذ عمر، فأخذ بيدي وقال:

ـ تعال سايرني قيلاً. لم أرك منذ زمن طويل وان كنت أتابع أخبارك وأقرأ لك بين الحين والحين. ماذا تكتب لنا في هذه الأيام؟

فسرتُ معه في الشارع الذي كان مقفراً إلى الحديقة العامة التي أعرف أنّه يقصدها كل أصيل، وأجبته قائلاً:

ـ تعلم يا أستاذ أنَّ الكتابة ليست مهنتي… أمارسها في أوقات فراغي. أنا الآن في سبيل كتابة رواية بعنوان “الأيقونة”.

قال: وما هو موضوعها؟

قلت: أنها مجموعة من الذكريات والأحداث تربط بينها أيقونة. منذ عدّة سنوات طلبت مني زوجة صديق عزيز علي في بيروت أن أبحث لها في حلب عن أيقونة قديمة، أصيلة، لتقتنيها وتتبرك بها، وقالت أنّها مستعدة لأن تدفع ثمنها مهما كان مرتفعاً. كنت في الواقع أنوي أن أقدم لها الأيقونة هدية عندما أجدها.

سألني الأستاذ عمر: وهل وجدتها؟

قلت: لم أعثر على واحدة ترضيني في ذلك الحين. ولكني، في تنقلي باحثاً بين مقتني التحف القديمة وتجّار الآثار والكنائس العريقة في مدينة حلب، سمعت حكايات، وقابلت أصنافاً من الناس، وعرفت أموراً تستحق أن تسجل كتاريخ وأن تروى كأدب. ومنذ ذلك الحين ظلّت تروادني فكرة تأليف رواية حول ما شاهدته وعرفته، في جولاتي، بحثاً عن الأيقونة. وأنا الآن، وبعد أن انقضت سنوات على تلك الجولات، مكب على كتابة هذه الرواية. أعتقد أنّها ستكون رواية جميلة ذات موضوع مبتكر، وأنها ستعجب القرّاء.

قال الأستاذ عمر بعد أن سمع مني هذا الكلام: ستكون رواية جميلة بلا شك. فما تكتبه شيّق دوماً، ويستحوذ على اهتمام من يقرأ لك. ولكني أرى أنك في هذا تقشّر الخيار بالسيف البتّار!..

كنا قد وصلنا، الأستاذ عمر وأنا، في تسيارنا إلى حديقته المألوفة، فدخلتها معه وجلسنا على مقعد منزو في أحد جوانبها. بعد أن أدرت في ذهني عبارته الأخيرة مرّات:

ـ لم أفهم يا أستاذ ما تقصده بتقشير الخيار بالسيف البتار.

قال: السيف البتّار هو قلمك ياولدي. وما تكتبه عن الأيقونة والذكريات حولها هو تقشير الخيار. أترى السيوف الباترة صنعت ليقشر بها الخيار ويقطع بها الباذنجان؟

ضحكت ضحكة خفيفة لهذا التشبيه الذي لم يخطر لي على بال، وسألته بدوري:

ـ وماذا تريد مني أن أفعل بسيفي البتار؟

قال: ليس منك وحدك. أنت واحد من كثيرين. أنتم الذين تحملون الأقلام التي هي سيوف باترة. ما علمناكم، نحن مربيكم وأساتذتكم، حمل هذه السيوف لتفعلوا بها ما تفعلون الآن…

قلت: أعذرني يا أستاذ. حتى الآن لم أفهم ما الذي تأخذه علي، أو علينا نحن تلامذتكم، في استخدامنا ألامنا؟ إننا ننتج بها أعمالاً تعجب الناس وتترجم إلى كل اللغات ويصفها الجميع بأنّها روائع أدبية وفكرية.

فسكت معلمي الشيخ قليلاً، وهو يجيل نظره في جوانب الحديقة قبل أن يقول:

ـ ألا ترون العالم أمامكم وحولكم؟

قال هذه الكلمات بلهجة أسى تبين لي من خلالها بعض ما تبطنه كلماته العاتبة. ومع ذلك فقد أجبته، مكابراً:

بل إننا نراه. انّه عالم جميل، وفي تطوّر مستمر.. تطوّر إلى الأفضل!

فتطلّع إليّ بنظرة ثابتة وقال: هل أنت جاد في كلامك؟ الفساد المستشري في العالم وبين الناس، والكوارث التي هي ليست من صنع الطبيعة وعناصرها الجبّارة، بل التي يصنعها أخوك الإنسان بجهله أو بظلمه أو بالشر الذي يملأ نفسه، والحقوق المهضومة، والحرمات المهتوكة.. هل كل هذا تطور إلى الأفضل؟!

قلت: لنفرض جدلاً بأني أوافقك على حكمك المأساوي على عالمنا.. فأي ذنب لنا، نحن الذين نكتب، في هذا؟ وما الذي تطالبنا به على التحقيق؟

قال: أطالبكم بأن تكون كتاباتكم في هذا. إنّها مسؤوليتكم. مسؤولية أن تعملوا أقلامكم في الفساد الذي يسود هذه الدنيا والمصائب التي تنزل عليها متلاحقة، وليس في تقشير الخيار، أعني في تأليف روايات عن الأيقونة والذكريات التي تثيرها الأيقونات.

ابتسمت وأنا أتذكر بحدّة كلام الأستاذ عمر لهجته القديمة في تقريع طلاّبه المقصّرين أيام تتلمذنا عليه. وسكت قليلاً قبل أن أرد عليه بقولي:

ـ الحق معك فيما تلومنا به يا أستاذ. ولكن…

فقاطعني قائلاً بنفس الحدّة: ولكن ماذا؟

قلت: أحكم، سيدي، علي. أنت تتحدث من موقع المتفرّج، بينما نحن نعيش واقعاً نضطر فيه إلى كتابة هذا الذي نكتبه ولا يرضيك أنت.

قال: وما الذي يضطرّكم؟ أهو الخوف؟

قلت: فلنسمه الحذر. قد يكون واحدنا شجاعاً لا يبالي بما يمكن أن يصيب الآخرين بجريرته.

قال الأستاذ، وقد تطامنت حدّته: لم أفهم عليك يابني.

قلت: أسوق إليك مثالاً شخصياً. المثال قديم، يعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً، فالتمثل بالجديد أمر ليس هيناً. في ذلك الزمن البعيد عدت من زيارة لي في العراق الذي كان يرزح تحت أحكام عرفية قاسية فرضتها عليه حكومة نوري السعيد.

كتبت عند عودتي مقالاً نشرته إحدى المجلات السورية في دمشق، عنوانه “عنتر في بغداد”، تحدثت فيه عن مشاهداتي من حسنة وسيئة في ذلك القطر العربي. وأعجب بهذا المقال أصحابي العراقيون الذين لقيتهم في بغداد، وكان منهم الصديق الأستاذ خالص عزمي صاحب مجلة “الأسبوع”، فأعاد نشره هناك في أحد أعداد مجلته. إلاّ أنَّ ذلك العدد صودر، وفرضت غرامة بمبلغ من الدنانير لا أذكره الآن على الأستاذ عزمي لتجاوزه محظورات الأحكام العرفية. وحدث بعد ذلك بعام أن ألغيت تلك الأحكام العرفية، واطمأن رجال الصحافة إلى أن من حقّهم أن يتنفّسوا بحرية، فأعادت “الأسبوع” نشر ذلك المقال المحظور، فكان أن أصدر أمر نوري السعيد بإلغاء امتياز المجلة من أساسه. وبهذا فقد صديقي خالص عزمي مجلته نهائياً…

قال الأستاذ عمر متمثلاً:

ومن ظن ممن يلاقي الحروب ….. أن لن يصاب فقد ظن عجزاً

وأضاف: هذا بيت شعر قديم للخنساء، يصدق عليكم كما يصدق على كل من يقوم بواجبه.

ومن المنتظر أن يحدث لصديقك ما حدث له. المهم أنه قام بواجبه.

قلت: ولكنه خسر ماله وحرم من مجلته ياأستاذي، وبسببي أنا. لست مستعداً أن أجلب لأصدقائي هذا النوع من المكاسب.

قال: صاحبك أشجع منك دون شك. أنا أجزم أنه كان يتوقع ما أصابه، ولم يتراجع مع ذلك عن نشر المقال وعن إعادة نشره. خسارة المال ليست شيئاً أمام راحة الضمير. لم أعرف كيف أقنع الأستاذ عمر بأنه يطالب الكتاّب بأمر يفوق طاقتهم، وقلت:

ـ ليس المال وحده يا أستاذ. أعرف رجلاً حرّمت عليه بلاده، وبلاد كثيرة غيرها، لأنه لم يقنع بأن يقشّر الخيار، مثلي، بسيفه. كلما زرت باريس جالسته في مقهى الكريستال بجانب قوس النصر هناك، وسمعت من حسراته لفراقه وطنه ما يبعد عني كل رغبة في بطولة من نوع بطولاته.

سألني الأستاذ عمر: وأي بطولة قام بها هذا الرجل؟

قلت: استخدم قلمه فيما تريده أنت ياسيدي. أوّل ما أصابه أنّه اضطر إلى الهروب بنفسه من عاصمة بلاده إلى بيروت، لا تنس أني لا أسوق إليك الأمثلة من الحاضر بل من الماضي القريب، في الزمن الذي كانت فيه بيروت موئل الحرية للمهددين في حريتهم، كانت لهذا الرجل شهرة في الكتابة تفتح له أبواب الصحف أينما ذهب. كتب أول ما كتب مقالاً لجريدة النهار في تلك المدينة. وحينما قرأ الأستاذ غسان تويني، رئيس تحريرها، مخطوط ذلك المقال رفع رأسه إلى رجلنا ذاك وقال له: سننشر لك ما كتبته… وإنما ليكن في علمك أنك ستحكم لأجله بخمس عشرة سنة من السجن في كل بلد عربي تدخله جريدتنا…

سألني الأستاذ: وهل نشر المقال؟

قلت: لا، طبعاً. ومع ذلك فانّ بيروت، على سعة صدرها في تلك الأيام، ضاقت بصاحبنا إلى أن انتهى به قلمه ولسانه إلى أن يتحرّق حسرات في مقهى الكريستال بجانب قوس النصر في العاصمة الفرنسية…

***

لم يبدِ على الأستاذ عمر أنه اقتنع بما أقوله.

لقد ظل على إصراره على أن واجب الكتاب الجديرين بهذه الصفة أن يُشرّعوا أقلامهم ليحاربوا الاعوجاج أينما كان في هذه الدنيا وأياً كان مصدره، قبل أن يشغلوها بالإبداع الفنّي. ولما كنت أعرف تعلّقه بالتاريخ وبالماضي البعيد الذي طالما لقننا الدروس فيه، فقد رأيت أن أضرب له مثلاً منه، فقلت له:

ـ كأنك تريد للأدباء في هذا الزمن مصيراً كمصير بشار بن برد…

قال: وما دخل بشار فيما نتحدث فيه الآن؟

قلت: أنت الذي أخبرتنا أنه فقد حياته حين نظّم في فساد الحكم في أيامه بيتين كان فيهما هلاكه تحت السياط.

وهنا تلا الأستاذ بيتي بشار المشهورين:

بني أمية هبّوا طال نومكم ….. إن الخليفة يعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم ياقوم فالتمسوا ….. خليفة الله بين الزق والعود

ثم تابع قائلاً: ذاك كان شاعراً هجّاء خبيث اللسان، لم يقل ما قاله طلباً للصالح العام، فلاقى جزاءه. أما ما أريده من الكتّاب الحقيقيين فهو شئ آخر. أريدهم أن يكونوا بنّائين في نقدهم، ايجابيين فيما يوظفون أقلامهم فيه.

وكانت الشمس في هذه الأثناء قد قاربت المغيب، فتذكرت أن عليّ موعداً انشغلت عنه برفقتي لمعلمي القديم وبحديثه. رحت أعتذر منه لاضطراري إلى مرافقته، وقلت له ممازحاً:

ـ سأبلغ دعوتك هذه يا أستاذ إلى أدبائنا الذين اتخذوا من الكتابة مهنة لهم. أنت حريص على أن ترى هالات الشهادة حول رؤوسهم، ولكني لا أعرف كثيراً منهم ممن يرغبون بهذه الهالات. أما أنا فلست، على ما تعرف، كاتباً محترفاً.

أعذرني إذن إذا رأيتني أتسلى بين الحين والآخر بتقشير الخيار بالسيف الذي في يدي، وإذا عدت إلى إكمال روايتي التي بدأتها عن الأيقونة…

قلت هذا وأسرعت في ابتعادي عن الأستاذ عمر. فلم يعد لدي مزيد من الوقت أبقى فيه معه، ولا كانت لي رغبة في سماع مزيد من تأنيبه أو من استنكاره لما أؤلف وأكتب.

الرقة ـ سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى