حكايتي مع الصقر

عيسى الشيخ حسن

خريف 1977، غشينا المدينة أطفالاً يافعين حيث المدرسة والسوق، والاختلاف. تقع المدرسة في أوّل المدينة، وكنا نصلها باكراً، وبيننا وبين دوامنا المسائي وقت طويل نقضيه في التسكّع لنتعرف “المدينة” مطاعمها وشوارعها ومكتباتها.
.
في الطريق إلى المدرسة اعترضنا رجل كهل، عارضاً بيع كتب مستعملة، بعدما نجحت ابنته إلى الثامن، وافق خالي فوراً ولم يتح لنا فرصة لنساوم ونظفر بكتب الفتاة. يكبرني عبد الكريم بعامين، ليس هذا وحسب، بل تبدو سيماه الجادّة وكأنه يكبرنا بأعوام. في الطريق إلى البيت مررنا بمكتبة الحيّ عند الشارع العامّ، واشترينا مجلّة الصقر بليرة ونصف.
.
في البيت كانت الصقر سلوانا الوحيدة في ريف بعيد مهمّش مؤجل قبل مجيء الكهرباء بعامين. كانت غلاف المجلة صورة لطفلات صغيرات يشاركن في استعراض حفل افتتاح دورة الخليج الرابعة. ظلت صورة الغلاف حاضرة في الذهن، لأن خالي اقتطعها وزيّن بها غلاف أحد كتبه المستعملة، تُعينه على تصفّح الكتب المستغلقة على طلاب متوجّسين ومستصعبين فكّ شفرة العلم.

مع الصحافي سعد الرميحي
ولدت الصقر مع تفتح وعينا على القراءة، وأظنّه كان العدد السابع أو الثامن من إصداراتها التي توالت أعواماً، كانت تباع بسعرٍ مدعوم في عموم الأقطار العربية (في سورية ليرة ونصف وما يعادل نصف دولار، حسب أسعار الصرف وقت ذاك)، ولكنّ نسخها القليلة جعل أمر الحصول عليها صعباً ومتعذراً في بعض الأحيان، وكان يجب مراقبة أول الشهر وانتظار مجلّتين آتيتن من الخليج: العربي الكويتية والصقر القطرية.
ولا أبالغ إن قلت إنّ جرائد الرياضة ومجلاتها السورية والعربية ساهمت في تشكيل أسلوبي في الكتابة، حين كنت أقرأ لفيصل شيخ الأرض وسعيد قضماني، وحسن المستكاوي ومجدي زهران، وفايز عبد الهادي، وبعد ذلك محمد بنيس، ورئيس التحرير سعد الرميحي، يسهبون في الحديث عن الكرة وعن الرياضة عموماً، وعن الهمّ العربي من خلال الرياضة، ولعلّ أهمّ عدد من الصقر ذلك الذي غطّى مباراة منتخب العرب.
.
وفي الصقر كنّا ننتظر ما يكتب عن الرياضة السورية، وعن منتخبها المتعثّر في البطولات القاريّة، وعن فريقي الجيش والشرطة أشهر فريقين في ذلك الوقت. وكانت الصقر تلبّي فضولنا في تعرّف بلاد العرب رياضياً، حين نقرأ تقارير مصورة عن بطولات الخليج، وعن بطولات الدوري العربية فنتعرف عن كثب الهلال والمريخ السودانيين، والأهلي والزمالك المصريين، ورباعي الكرة السعودية الهلال والنصر والأهلي والاتحاد، وتعرف الرياضة القطرية في فرق السد والأهلي والريان، ومنذئذٍ كنت أشجّع الريان ولاعبه منصور مفتاح.
.
استثمرت الصقر نجاحها الطاغي عربياً، على الرغم من ظهور مجلات منافسة (الوطن الرياضي) مثلاً، ولكن شعبية الصقر الجارفة حسمت الصراع لمصلحتها، ودعا القائمين عليها لمغامرة جديدة في إصدار نسخة الصقر الأسبوعي، وتألق محمد بنّيس القادم (فيما يبدو) من حقول الأدب، ليشكل نادياً اجتماعياً رياضياً، قبل التوقف المحزن.
.
حين جئت إلى الدوحة التقيت ببعض محرّري الصقر في تلك السنين، التقيت الصحفي مجدي زهران أكثر من مرة بحكم كتابتي في جريدة الشرق التي يعمل فيها، وتحدثنا غير مرة في مجلة الصقر، وعن فايز عبد الهادي الذي حرّر عدداً بمفرده في أحد الأعداد. وفي الأثناء التقيت طبعاً بالصديق الأستاذ عبد الكريم البليخ. أقام عبد الكريم وقتًا قليلاً صحفيّاً في الشرق، ثم غادر المكان، ليعود بعد سنين في أثناء بطولة كأس العالم التي استضافتها دولة قطر، في نسخة استثنائية.
.
والتقيت الصحفي الكبير سعد الرميحي مرّتين في مواسم معرض الكتاب، وكانت فرصتي في لقائنا الأخير أن أهديه “خربة الشيخ أحمد”.
.
واليوم تأتي فكرة استمرار الصقر فرصة لنجدد ذكرياتنا من خلال تتبع الصحفيين الذين تابعناهم وتأثرنا بكتاباتهم.
أديب وشاعر سوري