عبد الكريم البليخ
في مدينة الرّقة، المدينة السورية العتيقة التي نحتها التاريخ على ضفاف الفرات، وُلد الفنان حمود حسن السليمان عام 1963. لم تكن طفولته إلا صفحة بيضاء خُطّت عليها أولى ريشات الشغف بالفن، حين بدأت أنامله تلتقط من البيئة المحيطة بها ألوانها، ومن ذاكرته البصرية صوراً حفظها بعين الطفل المتأمل. وُلد لأسرة بسيطة، لكنها غنية بالقيم والانتماء، فانطلق منها ليحمل معه عبق التاريخ إلى كل لوحاته، وإلى كل ركنٍ مرّ به في رحلة طويلة وشغوفة من الإبداع.
حمود السليمان لم يكن فناناً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل كان ذاكرة حية تمشي على قدمين، وعيناً ترصد الزمن وتعيد تجسيده بلوحات تأسر العين وتهمس إلى الوجدان. اشتغل على فنون النحت، والديكور، والمجسمات التراثية، وحتى الأواني الفخارية، كأنه يحفر التاريخ في الطين، ليبقى محفوظاً في حضن اللون والضوء. لم يكن الفن بالنسبة له ترفاً بصرياً، بل التزاماً أخلاقياً، ورسالة يحملها في قلبه أينما حلّ، رغم صعوبات الحياة، والحرب التي فتكت بسوريا وأهلها. لكن ريشته ظلت مشرعة كقارب يبحر في الذاكرة، لا تعترف بالغرق، ولا تسكنها فكرة الانكسار.
من الرّقة، حمل السليمان فنه وجال به أرجاء سوريا، من حلب إلى دمشق، ومن تدمر إلى اللاذقية. لم يقف عند حدود الجغرافيا، بل تجاوزها إلى لبنان ومصر وتركيا، حيث عرض أعماله وتحدث عنها، محافظاً على وجه سوريا الحضاري، من خلال مجسّمات ضخمة، ولوحات غارقة في التفاصيل، ومشاهد بانورامية تمزج بين العمارة، والوجدان، والانتماء. واحدة من أبرز أعماله، تلك البانوراما التي نفذها في مدينة دير عطية، بطول 200 متر وارتفاع 22 متراً، وجمع فيها رموزاً أثرية كقلعة حلب، وبوابة بغداد، ونواعير حماة، وقلعة تدمر، لتكون خريطة بصرية لروح سوريا.
الفن التشكيلي بالنسبة لـ حمود السليمان هو أكثر من مجرد رسومات وألوان، إنه امتداد للهوية، ووسيلة للحفاظ على الذاكرة الجماعية، وممرٌ حسي بين الإنسان وتاريخه. هو يؤمن أن في كل ضوء هناك حكاية، وفي كل ظلّ أسرار. ولذلك، فإن أعماله تفيض بالواقعية الساحرة، التي لا تكتفي بنقل المشهد، بل تعيد بناءه بعيون الحنين. مشاهد من الريف السوري، وجدران البيوت القديمة، وأزقّة المدن التي سكنها الحب والحنين، كلها عناصر تتكرر في أعماله وكأنها لازمة تشكيلية تشي بالانتماء الصادق.
وصفه أحد الكتاب المبدعين بأنه أرشيف فني يمشي على قدمين، لأنه يستند في عمله إلى الذاكرة لا فقط كمرجع، بل كعقيدة فنية. شفافية اللون في لوحاته ليست مجرد تقنية، بل فلسفة، لأنه يرسم الضوء قبل اللون، ويعطي الحياة للشكل قبل أن يمنحه اسمه. في لوحاته المائية، نرى كيف تُصاغ الصحراء بلونها الذهبي، والفرات بملمسه السائل، والوجوه بما تحمله من ألم وفرح، كأنها تعكس بورتريهاً داخلياً أكثر ما تعكس شكلاً خارجياً.
في تجاربه الأخيرة، اتجه السليمان إلى البورتريه، لكنه لم يقدمه بالطريقة الكلاسيكية، بل اختار أن يرسم الوجوه التي غاب أصحابها عنه، أولئك الذين أحبهم وفقدهم، فجعل من ملامحهم بوحاً، ومن تفاصيلهم مرثية حبّ وألم. يقول إن في البورتريه يمكن للفنان أن يعيد نسج الملامح كما لو أنه يكتب سيرة ذاتية لشخص غاب جسده، لكنه بقي روحه في قلب الفنان. ويبدو أن هذه الرحلة في الوجوه كانت طريقه لتضميد جراحه الشخصية، وتجسيد حزنه بطريقة فنية فيها من الطهر بقدر ما فيها من الشجن.
حين نتحدث عن الفن التشكيلي في سوريا، لا بد أن نذكر التحديات، والصراعات، وانعدام الموارد. لكن رغم كل شيء، استمر الفن، وتمسك الفنانون السوريون بالحلم. وها هو حمود السليمان يؤكد أن الرّقة ـ مسقط رأسه ـ رغم كل ما مرت به من دمار ونكبات على يد داعش والنزاعات المسلحة، استطاعت أن تبقى وفية لذاكرتها، وجمعت فنانيها من جديد، في ورش ومعارض ومبادرات ثقافية تهدف لإعادة الروح للمدينة المنكوبة.
السليمان يرى أن دعم الفن لا يجب أن يكون في التباهي به فقط، بل في توفير بيئة حقيقية للفنان، مساحات للعرض، وتدريب للشباب، ومنصات رقمية للتسويق، لعلّ لوحاتهم تصل إلى أبعد من الجدران. وهو لا يرى الإنترنت كمجرد وسيلة حديثة، بل يعتبره نافذة مهمة فتحت للفنان السوري أبواب المتاحف العالمية، ومكنته من أن يرى العالم، ويعود إلى ذاته أكثر وعياً بخصوصيته.
في كل حديث له، لا يغفل السليمان ذكر أسماء كبار التشكيليين السوريين الذين سبقوه، والذين كانوا سبباً في أن يكون للفن التشكيلي السوري بصمة مميزة في المحافل العالمية. أسماء كـ فاتح المدرّس، وعمر حمدي، وغيرهم ممن تميزوا بتجاربهم الخاصة، والذين شكلوا مصدر إلهام له ولجيله، كما يرى أن الفنان الحقيقي لا يبتعد عن جذوره مهما سافر وتجول.
حتى المقاهي الثقافية، يجد فيها السليمان امتداداً للذاكرة، فبالنسبة له المقهى ليس مجرد مكان، بل بيئة خصبة للقاءات الثقافية، ومكان لاكتشاف الذات وسط الآخرين. ويؤمن أن غياب المثقف عن تلك الفضاءات هو اختلال في التوازن الثقافي للمدينة.
أما عن اللاذقية، فيقول السليمان إنها مدينة التشكيل، اكتشفها متأخراً، لكن وجد فيها كنزاً من الفنانين المنسيين، وبدأ بمشروعه لتوثيق أعمالهم، والتعريف بهم، وإعادة صياغة المدينة كقصيدة تشكيلية تمثل سوريا كلها.
وبين كل هذه التفاصيل، يبقى الأهم في مسيرة حمود السليمان أنه لا يرسم من أجل اللوحة فقط، بل يرسم من أجل الذاكرة، من أجل الوطن، من أجل الإنسان، من أجل الأب الذي رحل، والأم التي علمته أن الحب يبدأ من بساطة الألوان، ومن أجل ابنته التي تناديه من بعيد بابتسامة تشبه الضوء.
هو ليس فناناً وحسب، بل مؤرخ حسيّ، يعيش الحكاية قبل أن يَرسمها، ويتقن إعادة الحياة إلى ما كاد أن يُنسى.
حمود السليمان، الفنان الذي علّم اللون أن يتكلم، والضوء أن يحكي، والتاريخ أن يعيش على قماش لا يصدأ.
عبد الكريم البليخ
29/3/2025