Site icon المزمار الجديد

خواطر قد لا تَسرُّ الخاطر

فيصل أبو شادي

كيف نعود إلى التاريخ، وهل من فرصة للعودة إلى الذاكرة من باب التفاؤل والأمل (الموارب)، وعلى غفلة كنت ممن لفظهم التاريخ؟ وعزّ عليَّ ذلك الأمر.

الأمر بأيدينا لكن، كيف…؟

أكبر مشاكلنا تلك الـ (لكن)، فهل نحن بانتظار من يعيدنا إلى التاريخ، وأي تاريخ؟

هل بالترميم، أم بالاستنبات، أم بالتقليد، أم بتبديل الرداء، أم، أم؟

جربنا كل هذا. هدفنا ماض، ورمقنا وجمّلنا بعض ماض اقتلعنا جذوراً، وزرعنا حصى وأحجار، ودوّنا. استنبتنا ديانة وأديان جديدة، واستنبتنا شوارب لكل الألوان والأحجام والأطوال. ارتزقنا وتسولنا عند كل باب. طبعّنا.. واستصبغنا.. وانطبعنا.. وانبطحنا.. وحرّكنا.. وبرمنا ذيل الحرية بكل اتجاه ريح. غزونا وانغزينا، رفعنا كل البيارق، قتلنا وقُتلنا واستبحنا وأُبِحنا.

عَرِينا وتعرينا ولم نترك طبلاً إلّا ورقصنا على إيقاعه. تسلقنا كل الأسوار والجدران، وكتبنا أسماءنا في كل مكان، ونسينا لغتنا ونسينا أمنا، وتنورها و وصاجها وموقدها، ورائحة أردانها، وسخونة رغيفها. دفناها وهي على قيد الحياة، وتبولنا على……..!!!!؟

أدنى الأحياء، وأدنى أنفسنا. دمرنا الحواضر والشوارع والأرصفة، وسطرنا تاريخ الخيام والمخيمات، وتذكرنا (اللي ما يونّي يغرگ… نسيت ما ونيت!).

ينفر ويتملص من بين أصابعي هذا القلم وكأنه يخجل من حاضر إلى ماضٍ تولّى…. وغدٍ بات يتجلى.

هل هذا تبرئة، أم إرهاصات مذهب بتندرٍ منه، ترسم سور الرّقة.. ورصافة هشام.. وقلعة حلب.. وتاريخ تدمر.. و… و.. يعيدنا، أم ترميم أنفسنا، وذواتنا بإستخصار الحياة لتجاعيد وتلافيف عقولنا التي اهترأت؟…. هل نعود إلى التاريخ من باب الفرنجة، والرومان.. أم نسعى لتحرير أنفسنا من أنفسنا بعد أن استعمرنا ذواتنا وعقولنا وجغرافية وجودنا.

هل نعود إلى التاريخ؟ أم نبدأ بتعليم أطفالنا أن يبدأوا بكتابة التاريخ، أم ننام عراة نلتحف عباءة تاريخ….. أي تاريخ؟!.

**

الشعارات والعمائم تسوّق العقيدة، وأفكار عقدية بلا مُعتَقِد كوعاء فارغ تلعقه الكلاب!

الوطن يُشيَّدُ بالحقيقة…

الأرض حقيقة.. والحقيقة الأزلية ولادة وموت، وبينهما يحيا الإنسان وتُعمّرُ الأوطان.

أطفالي يبحثون عن وطن.. فلا تدفعني للبحثِ عن وطن ..!!.

الأرض لا تموت، ومن يعتقدُ غير ذلك، فهو ليس ابن التراب، ومن يؤمن بطهر الأرض فليتيمم، ويُعَفر ساعديه ووجهه وأقدامه بذلك التراب ويصلي موقناً بعودة الحساب والحياة..

وما بيني وبين الوطن ليس عقد زواج…

ومن غير المُباح مَثنى.. وثلاث..  ورُباع. إنّه الأب الذي نحمل جيناته ومورّثاته واسمه.

***

هنا من على أرضية مسرح واسع، غير مسقوف وأرضه الترابية، أجلس إليهم وأنا المتفرج الوحيد الذي يُسمى عُرفاً، وشرعاً وقوننةً الأب. ذلك العجوز القادم من كوكب آخر.

وهم هناك قبالتي يمتطون ظهر خشبة المسرح لبدء عرضهم اليومي المسلي والرافض لكل معايير ومبادئ المسرح، من شكسبير حتى أبو خليل القبّاني، ومن إضاءة وصوت ومُلقن وسنوچرافية وأزياء وستارة وأكشن وستوب وخروج عن النص، ومما تتمرد عليه روح الطفولة يبدأ الشجار.

يبدأ العرض، ويبدأ معه التراشق بالطائرات الورقية التي يصنعها خيالهم من دفاتر الدراسة، يرافقه تلك الموسيقا التصويرية المشوقة من صيحات وحركات ممزوجة بالضحكات أحياناً علامة الفوز، والتأوهات أحياناً علامة الإصابة المباشرة على خلفية استخدام ما في جعبتهم من ألقاب وأوصاف يقذفون بعضهم بعضاً بأطرافها وعلو كعبها من خلال التلاعب بنبرة صوت وتضخيمها (يواااااال)، يتدرج العرض ودهشتي ومتعتهم بامتطائهم دراجات الخيال التي أشعر بحركتها وصوتها وسرعتها، وتبدأ المطاردة يرافقها نبرة صوت وصيحات مختلفة تتلاءم مع الحالة التي يعيشها كل طرف.

 ها أنا ذا الهارب من واقع غريب أهرب معهم إلى خيالاتهم وعالمهم البريء،  وتراني أهوي بيدي في أثناء قذفهم الطائرات، وأزيح برأسي عن طائرة الورق.. ولولا الحياء وتفطني لموقعي لركبت دراجاتهم المُتَخيلة، و لسقطت أرضاً، وتأوهت أيضاً بلغتهم التي أجد صعوبة في إجادتها.

عُد لرشدك أيها المتفرج العجوز .. يخترق كياني ذلك الصوت القادم من العمر، والسنين واللحية البيضاء، والأسنان المهترئة. أضحك بسرّي وأعود إلى بعض اتزاني ووقاري المخدوع وأتابع بشغف.

إنه عرض لا يخضع لأي مذهب مسرحي .. ولا إلى أي تقييم، وضبط لواقع يحتويهم.

يعود الهدوء للعرض على أنغام موسيقى تتقاذفها أفواههم وأحاسيسهم البريئة يدلل على الجهد الذي بذلوه والتعب الذي أصابهم فيبدأون بالانبطاح على خشبة المسرح، ويقتربون أكثر من بعضهم حد التلامس واسترجاع كل ما قدموه.

 في هذا العرض تتعالى الضحكات، ويخيم ظل فرحهم وسعادتهم ليشكلوا طاقة زهور تُطوِّقُ عنق المتفرج الوحيد، وتبثهُ عطر الطفولة الهاربة من بين أصابع أطفال هذه الأيام!.

**

لم يعد من جدوىٰ للصراخ ..

لا تصرخ… ستتورم (لوزتيك)، ويخنقك صراخك.

لا جدوى من صراخك، و قرعك رؤوس مثقوبة. قد فرغت من الأحلام.

والرجولة والأوهام وتعاليم الأنبياء.

لا جدوى، هناك ستموت من صراخك وكذبة الأحلام، وإن لم تمت أيها الشريد، أشرد وأهرب في فيافيها كأرنب طريد يلوذ كلما ارتعب إلى جحور الأيام.

**

لم أعد صالحاً للاستعمال وللاستخدام، فلم تعد الموديلات القديمة تصنع…

لأن لا فائدة لها، والمكان الذي جاءت منه لا تردّ بضاعته، ولا تستبدل.

إذاً اعرضوني كقطع غيار، أو سمّروني على جدار، كتراث عتيق، و فرجة للأجيال القادمة.

**

ها نحن أنا وأنت أيها الصديق الرفيق، ومهما نجحنا بالهروب من مطاردة العمر والسنين وبياض الشعر، وتجاعيد الأيام وتعللنا بالتهافت على بيرق الحياة ولمعانها، ها نحن، أيها الوالد والجد والرفيق، نرنو إلى همس الحنين، وموال الذكريات الدفينة بدفء تلك الأيام العتيقة الجميلة.

ننفض الغبار عن صور ولوحات ورسوم وخطوط وحروف اخترناها، وكومة من الأحلام.

قهرتنا الأيام ونسيناها. جلسنا على عتبة تلك الدار مع الحالمين الدراويش الذين يغفون على مسطبة التقاعد.. يبتسمون متفرجين على فرح الصغار ورقص فراشات أحلامهم، وصخب شارع الأيام من حولهم لا يعترفون إلا بالفرح والأحلام البريئة.

أيها الأنيس العتيق طرقت باب الذكرى المقفل عمداً بالحزن والقهر لتأخذ بانحناءة ذلك العكاز. لنركب الدرب ونتعثر معاً من جديد بدروب كنا قد تهنا عنها.

نعود لنتلمس ترابها وحصواتها العنيدة.

لنبني تلة من الأمل كنا قد رسمناها وفقدنا عنوانها.

سوريا ـ الرقة

Exit mobile version