فيصل أبو شادي
قدَراً…
أشمّر عن زنود وسواعد، وأهيّئ نفسي ومن حولي، فكل ما تبقى ليس إلا شروخاً وسواتر. بعد أن امتصت السنين ماءها وملحها، تآكلت ضاحكات الأيام وأنهكتها أنياب الزمن شمرتُ وتوكلتُ، وإلى أعمق دهاليزي تدحرجتُ. أنبش بئر الحياة التي ملأتها رمم، بقايا، أكوام من أوهام علاء الدين، علي بابا، السندباد، وجذوع أحلام ضائعة.
أن تنبش بئراً… يعني، وفق ما هو متعارف عليه هنا، أن “تُزحْ البئر”، أي أن تنظف قاعه وتزيل ما تراكم من بقايا الأيام، لتعود له الحياة ويتدفق منه الماء إذا لم يكن قد نضب. وإلا، فعليك بحفر الأعماق أو حفر بئر جديد.
وفي كلتا الحالتين، نعود للزنود والبنود، والسواعد والقواعد، ونبش الحاضر للعثور على الماضي.
البداية:
قيد النفوس (إخراج قيد)، وما أدراك ما يعني هذا؟!
أنت مطالب بالإفصاح، لا التلميح، عن اسمك، واسم أبيك وجدك؛ بمعنى أصلك. أنت مطالب بتحديد “من أنت؟”. لكن هل تعرف حقاً من أنت؟ وإن عرفت، هل سيعترفون بك كما أنت؟ وإن لم يعرفوك، فعليك أن تعرف أنت نفسك.
قبل أن تلج عالم والدك وجدّك، سأروي لك حادثة مرّت بي، لا لطرافتها بل لشدة واقعيتها. في منتصف الثمانينيات حصلت على منحة دراسية خارج الوطن لمتابعة دراستي. حملت أوراقي وملفات أحلامي وصعدتُ سلالم وزارة التعليم العالي لإعلامهم بالأمر وتدوين اسمي ضمن سجلات الشباب الطموح “المناضل”.
دخلت مكتب معاون وزير التعليم العالي، الدكتور محمد صاصيلا، رحمه الله. كان مكتبه متواضعاً وأنيقاً في آنٍ واحد. وضعت ملفي أمامه، فبدأ بقراءته وتفحصه باهتمام، ثم طواه وأعاده إلى هيئته الأولى، غطاه بيده ورفع رأسه نحوي بهدوء، وسألني: “إنت ابن مين يا ابني؟”
صُدمتُ بالسؤال، فابتسمتُ ابتسامة خفيفة، مشيراً إلى الملف أمامه. أردف قائلاً بهدوء: “بعرف يا ابني… بس انت ابن مين؟” ثم دنا برأسه، وانحنى قليلاً باتجاهي وقال: “أبوك… شو بيشتغل؟”
شعرت برعشة خفية، وبدأ العرق يتصبّب من جبهتي. تابع كلامه: “يا ابني، أبوك مسؤول؟ فلاحين؟ عمال؟ طلاب؟ غرفة تجارة؟ لك يا ابني… مين أمن لك المنحة؟”
هدأت قليلًا وبدأت أستوعب ما يرمي إليه، فقصصت عليه قصتي بكل بساطة: “دكتور، هذا مجرد مجهود شخصي. تواصلتُ مع الجامعة والسفارة، وقدمت أوراقي، وكانت العملية بهذا الوضوح. وهم من نصحني بضرورة إبلاغ وزارة التعليم العالي”.
عاد إلى هدوئه قائلاً: “يا ابني، أنا مصدقك، لكن خارج هذه الغرفة… شو علاقتك بالسفارة؟ وليش ليعطوك منحة؟ و… و…”
وأضاف: “يا ابني، بس تطلع من هالغرفة، أنا ما بضمنك. بدك تُسأل عن الجهة اللي باعثتك”.
ثم ختم قائلاً: “انسى الموضوع يا ابني”.
هذا بعض ما كان وبعض ما حصل، حيث قطعنا الطريق على ما سيحدث، وانعطفت إلى درب آخر سأروي حكايته في حينها، برفقة أحلام شابة كانت ترافقني في كل خطوة.
**
قبل تلك اللسعة، كنت مستعداً لمغادرة البلد. في اليوم الذي توفي فيه جدي، طلبنا تأجيل موعد رحلة الطيران للأسبوع التالي، بعد نصيحة من والدي وأفراد العائلة، الذين كانوا على علم بما يعنيه جدي لي. قالوا: “ما يصير… عيب… شبدنا نقول للعالم؟ احضر عزاء جدك وبعدين سافر.” فكان ما أرادوه.
كنت في طريق السفر إلى دولة أوروبية لدراسة الطب بعد حصولي على الثانوية العامة وقبولي في الجامعة. وضعت نفسي تحت إشراف الوزارة وأصبحت من الطلاب الدارسين خارج الوطن، ضمن برنامج الإشراف لصرف العملة الصعبة بسعر منخفض للطلبة، مقابل الالتزام بالنجاح السنوي والانضباط.
انتهت مراسم عزاء جدي… وطارت كل الأحلام، دُفن حلمي في قبر جدي.
لقطة مسربة من أجواء العزاء النسائي:
“وَلِي آمني… ما جوزتي؟ جَوْزِي! اشتستنّين… هو ها لوحيّد… موو نجح… حُولو، وحوالي بنات عمامو وبنات خوالو”.
“آخ، يا خيتي… عجل موو يريد يسافر تا يصير دكتور!”
“اسدّي وجهچ، ولي، عجل مو جابهم من جم نهار، ابن منهبل! مدري شضاربينه الأجانب وجاء مهبول… يا خيتي، ولي، هو هالوحيد، خايفة على معيشتو ولي!”
وسأختصر ما قالته والدتي بمواجهة ثورتي آنذاك:
أمي: “تموت، تطيب، ظل جدام عيوني. يلعن أبو المدرسة وأبو جنيتها. إنت هالوحيد، إن ضيعتك، شسوي بحالي؟ البارح جاي ابن من عند الأجانب، منهبل، ومسكرين عليه الدار، ضاربينه إبر ومهبلينه. والله ما تتحرك من هين إلا أذبَح حالي… يا نور حالي، إنت هالوحيد”.
بعد هذا العمر، أقول: لله الأمر فيما كان وسيبقى.
السياسة تئد أحلامك، والجهل يئدك… بعد كل هذا، هل أدركت من أنت؟
**
برسم من…؟
هل انهارت جدرانك إلى هذا الحد، أيها الوطن، ولم تعد قادراً على حماية أطفالك من الذوبان؟ هل أطلقت سراحهم لوجه الشيطان؟ أين سحرة فرعون القائلون “أنا ربكم الأعلى”؟ هل تخلى عنك سحرتك وشياطينك؟ هل أشفق عليك موسى؟ متى تعلن توبتك، أم تنتظر الغرق؟ لم يحن موعد الغرق بعد… أم أنك تعلمت السباحة على كل الشطآن، وتجيد كتابة الرسائل من تحت الماء؟
مات نزار وتركك لقارئة الفنجان… أي وطن هذا الذي يتلذذ برقص أطفاله على جمر الخذلان؟ أي وطن أنت؟
بئس الوطن الذي لا يعرف ماذا يرتدي، حتى اعتاد الصلاة عارياً!
**
سؤال كلاسيكي ساذج امتطته صحافة الزعامات في أيام الانكسارات، وحملته بحبل مشدود حتى ضباب هذه الأيام.
تعرّض بعض أجمل وأصغر أفراد عائلتي للخطف أثناء عودتهم من زيارة، وفي وضح النهار، على يد وتدبير سائق تكسي أرعن، مريض، مهووس، مخبول، مكسور. هو ضحية قبل أن يُقنع نفسه بأنه جلاد.
وأحمد الله أن يد الرحمن أنقذتهم قبل أن يتمكن ذلك المسكين من إخراجهم خارج المدينة! وعادوا بسلام، بحفظه ورعايته، فله الحمد والمنّة.
ولهذا المسكين، أهمس بشيء من الغصّة والغضب: لم تقدر على كسر أصابعي، وتحطيم ريشة قلمي، فوصلت أطراف روحي…
ألا تعلم، أيها الغبي، أن الرياح ليست للبيع، ولا للأسر، ولا يمكنك امتلاكها؟ الروح وديعة عند الله. لو كنت تعرف، وتشعر، وتحس، وتدرك ضحكات الحياة وإشراقها – شهلا، نور، وأقرانهم – لعرفت أن نور الحياة لا ينطفئ، وأن الرياح لا تستسلم. حتى لو فقدت صوتي ونظري، سأرميك بسهام الريح. تسقط الأوطان بسقوط الإنسان، ولكن لن يسقط وطن دنس مستنقعه الجرذان.
الحياة حاضرة، والفرح حاضر، والغد قادم. والضباب تزيحه الريح ليظهر ضوء النهار، وستعود الزواحف إلى مغاور الظلام…!!!
**
لن تقدروا على تقليم أظافري، ولا كسر أصابعي، ولا تحطيم ريشة أحلامي. لست من أولئك الذين يتأبطون أحزمة من الدولار، ليجعلوها سدًا يقيهم تيارات السفهاء وانحدار الأغبياء.
أيها الجهلة، ستبقون كذلك…
النور وديعة، والظلام خديعة، والأطفال وديعة عند الله.
وأمثالكم خفافيش الظلام والخديعة.
خلقت الأرض لتزهر بفرح وابتسامات الأطفال، ولتعمر بالأحلام.
حياة بلا حلم كالبئر بلا ماء…
الرقة ـ سوريا