فيصل أبو شادي
كان في الخمسينيات من عمره، رفيقاً ورقيقاً للأرض، بينما كنت أنا الطفل المتعثر بحصواتها، أسعى لملاحقة سلم العمر لأطاول قامته. كان طويل القامة، عريض الشارب، ذو وجه كبير وملامح بارزة لا تخطئها العين.
عرفته بعد أن نجحت في نطق الكلمات وفهم المعاني، فكان أكثر من مجرد عامل نظافة وجار. كان مفردة جميلة من مفردات الحي، رمزاً للزمان والمكان.
كنا أطفالاً ننتظر الفجر بشغف، لنشعر بطفولتنا، فنراه في الطرقات حاملاً مكنسته الطويلة، يدفع عربته التي تتوسطها براميل النظافة، وعلى جانبيها عجلتان تدوران في الأزقة والحواري، يجمع فيها مخلفات البيوت والحارات.
العم حُمدي…
كان النظافة في ذاتها، ما إن تُذكر النظافة حتى يُذكر هو. حضوره كان يعني النقاء، وغيابه كان يترك أثراً من التلوث في الشوارع والقلوب.
كان رجلاً قليل الكلام، كثير الابتسام، لا سيما مع الأطفال. حضوره كان يحمل معنى خاصاً لا ندركه في حينه. كنا لا نشعر بمرور اليوم إذا لم نرَ العم حُمدي.
يبدأ اليوم بشروق الشمس وظهور العم حُمدي.
أصوات لعبنا تتناغم مع حركاته في الشوارع، وينتهي النهار بعودته إلى منزله، بصمته المعتاد وابتسامته الخفيفة. وما إن يترك عربته أمام باب منزله حتى نتسابق، بصيحاتنا الطفولية، لدفع تلك العربة التي كانت لنا عربة أحلام.
أستذكر المطر وأيام الشتاء، عندما كنت أنتظر توقف الهطول لأخرج إلى الشارع حيث تتشكل البرك الصغيرة. كنت أنظر إلى خيالي المنعكس على وجه الماء الصافي، فيحضر طيف العم حُمدي، بنظافة الأرض ونقاء ماء السماء. ذلك الثالوث البسيط: أرض نظيفة، سماء صافية، والعم حُمدي… كان يشكل عالماً طفولياً لم أدرك قيمته إلا بعد فوات الأوان.
تلك الليلة…
تغيرت سكينة العم حُمدي المعهودة، عندما طافوا بي رفاقي وشيخي (الشيخ كامل)، وسط اصطفاف نساء الحارة ورجالها أمام بيوتهم، احتفالاً بحفظي جزءاً من القرآن الكريم.
كان التقليد أن يرتدي الطفل أجمل ثيابه، ويعلق حقيبة قماشية تخيطها أمه وتطرزها بالخيوط الملونة. كان الشيخ يكمل زينته بوضع طربوش أبيض على رأسه، ثم يأخذ بيده ليطوف به شوارع الحارة.
كانت الحارة تستعد لذلك الموكب، والأطفال يتأهبون لما يُنثر من السكاكر، يلتقطونها في سباق طفولي بهيج. المهرجان كان يكتمل بتوزيع الكعك الشعبي (الكليجة) والشاي على الجميع، في مزيج من فرحة الطفولة وبهجة الكبار.
في ذلك اليوم، رأيت العم حُمدي يغادر صمته وهدوءه، يبتسم كطفل كبير، لافتاً بعثرات أسنانه المهترئة من شرب الشاي وتعاقب السجائر. لكن أكثر ما لفتني كانت دمعة حبيسة خلف عينيه الحزينة.
ربما…
كانت تلك اللحظة تُذكره بأنه لم يكن أباً. لكنه، في زوايا ذاكرتي، كان أكثر من ذلك. كان أباً للطهارة والنقاء الذي عشناه في أزقة الحي وحواريه.
اليوم…
أستدعي ذكراه من ذلك الزمن البعيد، وأقول له:
“لم أكن ابنك، لكنني أتذكرك… واشتقت لك”.
اشتقت للأزقة والحواري، وتلك الأرض التي كانت تتباهى بنظافتها وطهارتها.
اشتقت لتلك الأفراح البريئة في زمن الطفولة الكبيرة.
أنتَ الوطن النظيف أيها العم حُمدي…
**
قبل عقد ونصف من الزمان، كان الجد يسرد الحكايات، وها أنا الآن أروي حادثة جرت معي في ذلك الوقت.
كنت قد عدت من خارج البلاد، حيث بدأت تعليم اللغات للمرحلة الثانوية، والمواد المختلفة للأطفال في المتوسطة وما دونها لأبناء الحي فقط. كان يومي مليئًا بالاستفسارات والتساؤلات حتى زارني ذات يوم شاب ثلاثيني. لاحقًا عرفت أنه من الإخوة الأكراد، جاءني برجاء خاص، طالبًا مساعدتي لأخيه الأصغر الذي كان في الصف التاسع ويستعد للامتحانات، لكنه لا يجيد العربية لا قراءة ولا كتابة.
أخبرني شقيقه أنه لم يدخر جهدًا في تسجيله بدورات تعليمية مختلفة، لكن بلا جدوى، إذ لم يتعلم حرفًا واحدًا. وباعتباري قريبًا من الحي، أصبحت أمله الأخير. أتذكر أن أول ما خطر ببالي حينها هو سؤال بسيط لكنه مستفز بالنسبة لي:
“كيف وصل إلى هذه المرحلة وهو لا يجيد القراءة والكتابة؟”
ابتسم الشقيق الأكبر ورد قائلاً:
“يا أستاذ، صحيح أنك عشت في الخارج… لكن الأمر بسيط!”
كان صمتي حينها أبلغ من أي تعليق. استقبلت الشاب في اليوم التالي في وقت فراغي، بعيدًا عن الحصص الجماعية. ألفيته شابًا هادئًا لطيفًا، يتحدث العربية بخجل، لكنه كان يتجاوب معي.
عادةً، لا تستغرق لقاءات التعارف مع الطلاب الجدد أكثر من نصف ساعة، إلا أن تلميذي الجديد استدعى ثلاث لقاءات مختلفة، بعيدة عن أجواء المعلم والمتعلم، وبعيدة عن الدروس.
كانت لقاءات شخصية محضة. تعارفنا جيدًا، واستطعت الدخول إلى أعماقه النفسية والعصبية، حيث شكلنا نواة صداقة مختلفة عن أي علاقة تقليدية بين معلم وتلميذ.
لم يكن عجزه عن تعلم العربية مجرد فشل تعليمي، بل رفضًا نفسيًا كاملاً متجذرًا في وعيه الباطني. نشأ على فكرة أن تعلم العربية يعني فقدان هويته الكردية، وأنه إذا تعلمها، سيصبح “كائنًا عربيًا” على حد وصفه.
هذا الشعور عززته التنشئة والبيئة المحيطة، دون أن يدركه شقيقه أو أسرته. أرادت عائلته أن يتعلم فجأة بعد أن أدركوا أن الشهادة هي المفتاح لفتح أبواب كثيرة.
أوضح لي هذا الفتى أنه لم يكن يشعر بأي ضغينة تجاه العرب. كان يلعب ويمرح معهم كأي طفل آخر في الحي. لكنه كطفل صغير، لم يستوعب الصراعات النفسية التي كانت تتنازعه، خصوصًا حين كان يواجه ضغوطًا لم تكن بحجم إدراكه.
بفضل الصداقة التي بنيتها معه، اخترقنا معًا الحاجز النفسي الذي كان يهدد حلمه، بغض النظر عن ماهية هذا الحلم. فالنفس البشرية وعاء يمكنك أن تزرع فيه ما تريد إذا صلحت النوايا، وكانت الإمكانات والتخصص حاضرة. لا يوجد إنسان دون مشاعر وأحاسيس وقلب وعقل وكيان، والعلم يأتي ليرتقي بهذا الكائن ليضيء طريق البشرية دائمًا.
نجح تلميذي في تعلم العربية، وحصل على الشهادة التي كانت تعني الكثير له ولأسرته. دخل الجامعة وتخرج، وحقق حلمه. لم يصبح عربيًا، ولم يفقد هويته الكردية، بل ظل مخلصًا لروحه وثقافته ولسانه.
إلى كل من يعيشون تحت صخرة الحياة، أقول:
الحياة بستان كبير لمن يؤمن بها. لا تقهروا أحلام النشء، دعوهم يحلقون في فضاء الحياة!
الرقة ـ سوريا