فيصل أبو شادي
البعض على طريقته، والآخرون على وظيفتهم، وأنا على طريقتي. أحاول غسل وجهها بالماء والصابون المعطر كل صباح وتسريح شعرها… وجدل ضفائرها وتقليم أظافرها، ووضع المنكير والبادي كير.. ومسحوق التعرّق، وبارفان الصباح والمساء.. وإلباسها ثوب العروس المدللة. الدلوعة، وحذاء سندريلا. لكن…عبثاً ؟!
الحزن لم يغادر عينيها… وظلت تذرف الدموع على استحياء… ويسيل الكحل من عينيها، ويلون وجنات القمر.. وتتوارى خلف الغيوم، تحتضن حزنها وألمها وحسرتها..
***
ما بكِ.. يا (الرّقة)؟
الدرّة عندما تحزن يتوارى الكون خجلاً!
ما بك.. يا (الرّقة)؟
حِمْلُكِ ثقيل… وحزنكِ دفين… وهذا حال الأمهات العذارى على أبنائها الحيارى.
حان الوقت لحرث تلك الأرض الطيبة، وبذرها ببذورها الحقيقية، لا بالبذور المهجّنة، وسقايتها بماء الفرات وبدموعنا.. وأمطار سمائنا.. وأصناف البذور المجربة: حسان بن ثابت، أبو فراس الحمداني، محمود درويش، خليل حاوي..
وأصناف أخرى كثيرة.
عروة شتوية… وصيفية… فقط علينا الحرث والبذار.. والسقي، وإن شاء الله يكون الحصاد وفيراً، حتى بالمحراث اليدوي.. والفأس.. والمنجل.. والجرجر… والمُنْخل (الغربال)… والمذراة. فقط، شمّروا عن تلك الزنود السمر بمحبة لنَخرُجَ من عنقِ الزجاجة من حالة العبث وحالة الهوى التي نعيشها، إلى حالة اليقين والوقوف باتزان وثقة.
خصمنا هو الفراغ… والخواء، والسراب.
***
ربما لا يثير استغرابنا ما يطفو على السطح من زبدٍ وغثاء من الجهل والتخلف من وقت لآخر بين شوارع وضواحي تلك المدينة الطبية.
لكن… يستثار لديك الحِنق والسخط والغيرة من سطوة الجهل والتخلف… وشعورك برداءة هذه الأيام وكثافة ضبابها وغيومها الملبّدة بالعصبية والعنجهية والغباء!
قد … لا أعلم بما يتفاخرون هؤلاء المشمّرين عن زنود التخلف والجهل الأسود،
وهم على مائدة واحدة، وصحن واحد ورغيف واحد.
ما الذي تتفاخرون به عندما يقتل أحدكما الآخر؟… لم تجتمعوا يوماً على ذلك ولن؟. لِمَ لمْ تستلوا سيوفكم أيها الحَمقى على أهل الرايات التي استباحت أرضكم وعرضكم ورجولتكم بكل لون وشكل؟.
اعتلت ظهوركم باسم الحرية تارةً، وباسم الدُمى قراطية مرة أخرى.
باسم الدين مرات ومرات، وأنتم بدل من أن تقرعوا طبول الرجولة .. والمرجلة… والنخوة العشائرية، والقبلية… قرعتم طبول الرقص.. والدبك.. وتمسيح الجوخ، وتلميع الذقون!
شاركتم بالخراب والدمار، ولا زلتم … وتضخّمت كروشكم ورؤوسكم، وأسكركم كأس الذل والهوان!.
إن كان من خجلٍ بقي في الوجوه، فاخجلوا من الله أولاً، ومن أطفالكم ثانياً، ومن ميراثكم الأصيل، وتذكروا مستنقع الوحل الذي تغوص أقدامكم فيه على مرأى من قبور التاريخ!.
***
رغم اتساع كوخ الوجع الموروث، إلا أنني احترت في إيجاد مكانٍ فارغٍ أُسَمِّر عليه اللوح (السبورة) إذا لا بد من العودة إليها وعناقها والتمرّغ بعبقها وتاريخها، كأنها باتت من المنسيات، إذ لم تَعد الشارح والمعلم والمنشئ… والسند… والمدد.
كان العلم مضماراً للعدو والاختبار، ومضمارك الخالد، والممر الإجباري للفوز والنجاح… أو التعثر والانكسار..
تحوفك الأخلاق، وتطارد الرقي لتفوز بالأخلاق ..
أتخيل نفسي بهذا العمر والمعمورة …والصحوة المصحوبة بفقدان ما قد افتقدته. أعود للمضمار عدّاءاً يمسك بيد عداء، ليسلمهُ عصا التتابع… ولا بد من الوصول لخط النهاية… إما رافعاً يديك ورأسك صوب السماء.. أو منحنياً هابطاً تستقبلك أرض الميعاد!
إنه التاريخ لا يرشي، ولا يرتشي…
***
أيها العربي … أنت مُستباح!.
في قصركَ، في أرضك… مُستباح.
في سمائك مُستباح.
في غرفة نومك مُستباح.
في مطبخكَ مُستباح … في مدارسك مُستباح… في حدائقك مُستباح…
في بحركَ… وفي نهركَ … وعمرك… وصلاتك… وصيامك… و زكاتك… وحجكَ … مُستباح.
في عقلك… وقلبك… وآدميتك. متى تكون؟!!
طالت أم قصرت دنياكَ إلى زوال.
إلى الآخرة مرجعك فلاحٌ أو صياح…
فكن ابناً باراً للفلاحِ… إلى خيمة العزِ، وصهوةِ الرجولةِ، وصرير الرماح.
المحاشي .. من يتذكر تلك المائدة الأسرية، الشعبية.. الرسمية، الملوكية. موسم الباذنجان والكوسا واليبرق، ورق العنب والبندورة والفليفلة، يُذكرك دوماً بها. فهي الأكلة العزيزة… الحنونة… ابنة العز! والدسم، والأصالة والتاريخ، تشهد لها بذلك أصايل الحواضر العربية. الشام، حلب والقدس.
لا تستغرب إن نازعك على ملكية أصلها وفصلها الأتراك وشراذم اليهود، ويحاولون اغتصاب أحقية أصلها.
نسوا أنهم استعمروا الأرض والزرع والضرع قرابة 800 عام.. وعاثوا في أكلها.. والتفرّد بها، وفرشوا الموائد والصحون.
لا يغرّنك قبضتك على القسطنطينية (استنبول)، وعبورك البوسفور، وقِدرُكَ الممتلئ لحماً وعظماً.
لن تغير مجرى النبع.. واسأل ابن ماردين (ابن تيمية)، والارسوزي، وسليمان العيسى وإنجيل أنطاكية، وحلقات الذكر، ومولوية جلال الدين الرومي، وطناجر محاشي الحمدانية، وخليفتك جمال باشا.
ماذا ننتظر لنعيد للمحاشي عزّها وبريقها، ومَرقها وعِظامها.. وفوران رائحة طناجرها ومواقدها.
لحم وعظم.. رز .. وبرغل.. وسمن.. زيت. ثوم .. وفليفلة، فضلاً عن لمّة الجارات والحبايب… وهات حفر وتحفير.. ولبّ.. والباب حب وحنين.
تذكر… ما جنته الأيام على المحشي والمحاشي!
الرَّقة ـ سوريا