زواج الأقارب في الجزائر: أمراض نادرة تفتك بالأبناء!

الجزائر- نهال دويب
أصبح واقع سهيلة مؤلماً جداً بعدما فارق طفلها الأول الحياة. أما الآخر، فيخوض صراعاً مع المرض ذاته الذي قضى على شقيقه. والمرض وراثي ناجم عن زواج الأقارب.
“زيتنا في دقيقنا” أي (زيتنا في طحيننا) هو واحد من الأمثال الشعبية التُراثية التي ساهمت في تأصيل معتقد داخل المجتمع الجزائري ولا يزال حياً بيننا وذا تأثير كبير، لا سيما في القُرى المُحافظة التي لا تزال مُتمسكة بمنظومة منهجية توارثتها عن الأجداد.
ويُضرب هذا المثل للدلالة على عدم خروج عن المنفعة أو المصلحة عن حُدود الأسرة أو العائلة الكبيرة. وهُو يُطلق عادة في مسألة تزويج البنات لأبناء عمهم وعدم تزويجهن من خارج العائلة. لكن يجهل كثيرون خُطورة هذا النوع من الزيجات ونتائجه الوخيمة على الأطفال والإعاقات الوراثية التي قد تُنقلُ إليهم، باعتبار أن الإعاقات الوراثية تُورثُ للأبناء نتيجة هذا الزواج بين أولاد العمومة من الدرجة الأولى، لأنهم يشتركون في الجينات الوراثية نفسها، ومن ثم فإن هذا الزواج يؤدي دوراً في الإصابة بالتشوهات الخلقية وأمراض نادرة كثيرة.
هذا الواقع المُر وجده الكثير من الأزواج عن قناعة أو بسبب الأعراف والعادات التي تحظى بقدسية كبيرة في محيطهم، وهم ينصحون اليوم رفقة الأطباء الأقارب بعدم تكرار الأخطاء ذاتها والابتعاد عن هذا الزواج لضرورات صحية.
طفلة مريضة ووالداها هما ابنا خال
تنقل لنا “إسراء” في العقد الثاني، طبيبة مُتدربة كانت في مرحلة تربص في إحدى مصالح طب الأطفال، معاناة طفلة في السابع من عمرها، أصيبت خلال فترة وجودها بالمصلحة بجلطتين دماغيتين AVC، بسبب إصابتها بأحد الأمراض الوراثية الناتجة من زواج الأقارب. فوالداها هما ابنا خال.
المرض الذي أصيبت به الطفلة، وفقا لتصريحات الطبيبة يُلقبُ بفقر الدم المنجلي Drépanocytose وهو منتشر بقوة في الشرق الجزائري. ويُلقب هكذا لأن سببه طفرة تُؤدي إلى تشوه في شكل كريات الدم الحمراء فتعطيها شكل المنجل أو الهلال.
وتشرح الطبيبة طبيعة هذا المرض والخطر الذي قد يسببه قائلة إن “الشكل العادي المُقعر لكريات الدم الحمراء يمنحُها انسابية في المُرور عبر الأوعية الدموية. أما الشكل المنجلي المُشوه فيمنحها العكس، وهو ما يزيد من خطر الانسداد ونتائج وخيمة لأن الانسداد قد يقع في أي مكان من الجسم بما فيها الدماغ.
واقع رث وفظيع جدًا
لم تكن الحياة الزوجية مُشرقة كما تصورتها سهيلة، وهي ربة بيت في العقد الثالث من عمرها، تنحدر من إحدى مدن قسنطينة العريقة. فقد كان الواقع رثَ الحقيقة وفظيع جداً، بعد أن فارق طفلها الأول الحياة. أما الثاني، فيخوض صراعاً مع المرض من أجل البقاء حياً. وهذا كله بسبب مرض وراثي نجم عن زواج الأقارب.
ويُقلب هذا المرض حسبما كشفته سهيلة في إفادتها بداء “ويلسون”. وهو حالة مرضية وراثية نادرة تُؤدي إلى ارتفاع كبير في مستويات النحاس في أعضاء عدة من الجسم، لا سيما الكبد والدماغ والعينين. ويُشخّص هذا الداء لدى معظم المرضى الذين تتراوح أعمارهم بين 5 أعوام و 35 عامًا فهو يُصيب الأصغر والأكبر سناً.
وعن تجربتها المريرة مع هذا الابتلاء، تقول: “اتضحت لي الرؤيا بعدما ظهرت على ابني الأول مؤشرات توحي بإصابته ويلسون، وتتمثل في الشعور بالتعب وفقدانه للشهية واصفرار الجلد وبياض العين ومشكلات في الكلام أو البلعم أو التنسيق الجسدي. كذلك كان يشعرُ بطعم معدني غريب في فمه. في البداية كنت أدرج كل هذه المؤشرات في طبيعة الجسم لأنني لا أفقه بالطب ولا أفهم تفاصيله إطلاقاً. لكن بعد ذلك خُضتُ تجربة صعبة ومريرة استغرقت أكثر من 5 أشهر كاملة لأكتشف إصابة طفلي الأول بمرض وراثي نادر قائم على رباط الدم”.
وفي ردها على سؤال عما إذا كانت على علم بهذه المشكلة الوراثية، ردت: “لم أكن على علم إطلاقاً بهذا المرض الوراثي لأننا لم نقم، زوجي وأنا، بالفحوص الطبية اللازمة للتأكد من سلامتنا الجسدية وقابلية انجابنا لأطفال سليمي البنية”.
وعن أسباب عدم لجوئها إلى المراكز المتخصصة لإجراء تحاليل طبية مُفصلة للتعرف الى التاريخ المرضي للعائلة، تقول سهيلة: “لم تكن تظهر علينا أي أعراض. وهُنا مكمن الخُطورة. فمعظم الأمراض الخفية تُورثُ للأطفال بعد الزواج، مثل التخلف العقلي وخلل التمثل الغذائي ومرض الكبد وضمور المخ وأمراض الدم الوراثية”.
وبعد أشهر كاملة من العلاج، حدث أسوأ أمر في حياة سهيلة بعد أن فارق ابنها الأول الحياة، وللأسف زاد الوضع سوءاً. فالمأساة لم تتوقف عند هذا الأمر، بل أصيب ابنها الثاني بالمرض ذاته ولم تعد سُهيلة تُدرك ليلها من نهارها وكل أيامها سواء.
270 مرضاً نادراً بسبب زواج الأقارب
يكتفي حالياً المُقبلون على الزواج في الجزائر على إجراء التحاليل المُتعارف عليها والمحددة في القرار الوزاري الوارد في الفقرة السابعة، المادة 84 ـ11 من قانون الأسرة الجزائري الصادر بتاريخ 9 يونيو/ حزيران 1984، والذي شُرع في تطبيقه منذ عام 2008.
وكشفت إحصائيات حديثة قدمها رئيس جمعية الأمراض النادرة والتوحد في الجزائر تسجيل أكثر من 270 مرضاً نادراً في عدد من المدن، و”يرجع في الدرجة الأولى إلى زواج الأقارب”.
ووفقاً له، تأتي مدن تيزي وزو وبجاية وغرداية وجيجل في صدارة المدن الجزائرية التي تنتشر فيها الأمراض النادرة، بنسبة تتخطى 35 بالمائة. وهذا بسبب طبيعة العلاقات الأسرية التي هي عبارة عن جماعات مغلقة، لها عادات وتقاليد وثقافة مجتمعية خاصة تُفضلُ زواج الأقارب. فابن العم وابن الخال أو الخالة لهم الحق بالزواج بالدرجة الأولى، وهم طبعاً أولى من الغريب.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أصدر تعليمات إلى وزارة الصحة والسكان في البلاد تقضي بضرورة تكفل الدولة مجانا بـ373 طفلا مريضاً بالاستقلاب الخلوي ونقص المناعة، في 18 ولاية (محافظة)، عن طريق توفير المكملات الغذائية والأدوية. كذلك أمر بالتنسيق مع الجمعيات المتخصصة بالأمراض النادرة لإبقاء هذه الأمراض تحت مجهر الدولة لكشفها مبكراً.
خُطوة مُهمة… وتساؤلات
وقد وعت الجزائر كغيرها من الدُول خطورة زواج الأقارب ونتائجه على الأطفال والإعاقات الوراثية التي تُنقل إليهم، باعتبار أن الإعاقات الوراثية تورث للأبناء نتيجة هذا الزواج بين أولاد العمومة من الدرجة الأولى، لأنهم يشتركون في الجينات الوراثية نفسها. ومن ثم فإن هذا الزواج يؤدي دوراً كبيراً في الإصابة بالتشوهات الخلقية وأمراض كثيرة.
ولهذا الغرض قامت الحكومة الجزائرية بتعديل كيفيات إعداد الشهادة الطبية المشترطة في عقد القران بين الزوجين. وقد ورد في المرسوم التنفيذي رقم 24 ـ 366 المؤرخ في 5 جمادى الأولى عام 1446 الموافق لـ7 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2024، أن الهدف هو ضبط كيفية إعداد الشهادة الطبية بعد الفحص الإلزامي.
ويهدف المرسوم المتعلق بتعديل الشهادة الطبية والفحوص والتحاليل إلى الكشف عن الأمراض المتنقلة أو عوامل الخطر التي قد تسبب لطالبي الزواج بمشاكل صحية. وفي التفاصيل يشترط المرسوم إجراء فحص طبي لدى طبيب ممارس على كل من طالبي الزواج، ثم تسليمهما شهادة طبية.
واعتبر المرسوم أن الشهادة الطبية لا يتم تسليمها إلى طالبي الزواج إلا بعد إجراء فحوصات قياس الضغط وقياس الوزن والطول والفحص العيادي.
ومن جانب آخر، نص المرسوم على عدم تسليم الشهادة الطبية إلا بعد إجراء تحاليل وفحوص بيولوجية وتحديد فصيلة الدم وفحوص مصلية لداء الحصبة والمقوسات. وتتمثل الفحوص البيولوجية في اختبار التهاب الكبد الفيروسي “ب” و”ج” واختبار لفيروس العوز المناعي.
كذلك ألزم المرسوم الجديد الموثق أو ضابط الحالة المدنية بعدم تحرير عقد الزواج إلا بعد تقديم الشهادة الطبية لطالبي الزواج.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو هل تكفي هذه الخطوة للحد من العواقب الوخيمة الناجمة عن زواج الأقارب أم أنه بات من المستحسن الابتعاد عنه لضرورات صحية علمًا أنه لا يُوجد قانون يمنع هذا الزواج؟
قبل إجابته على هذه التساؤلات، يُسارع الدكتور محمد كواش، الطبيب والباحث في الصحة العمومية، إلى تقديم تصوره الخاص للمشكلة التي يعالجها تحقيقنا، قائلا إن “الأمراض النادرة أو المُلقبة بالأمراض اليتيمة قليلة الحدوث ولكنها موجودة، وهي صعبة العلاج ومكلفة بالنسبة للمرضى أو الدولة، وعادة ما نجد شخصا واحدا مصابا بمرض نادر من أصل 600 ألف”.
وكي تظهر هذه الأمراض المخفية، يقول امحمد كواش إنه يجب أن يكون الزوجان قريبين من الدرجة الأولى، أي أنهما يشتركان في الجينات الوراثية ذاتها. وهو ما يُسبب ضعف الخلقة للأبناء ووجود مشاكل صحية ونفسية. وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا النوع من الزواج خشية من انتقال الأمراض بسبب الكروموسوم المتنحي الأب والأم. وإذا اجتمعوا في الابن فيكون كروموسوم سائدا.
وقد تلقى الأطباء الجزائريون تعليمات تقضي بضرورة توعية الأقارب المقبلين على الزواج للأخطار الطبية الناجمة عن هذا الزواج وإمكانية تقصي التاريخ المرضي للأسرة وما إذا كانت بعض الأمراض متوارثة بين أفرادها، مثل مرض الثلاسيميا، وهو مرض وراثي ينتقل من الآباء إلى الأبناء ويعتبر من أمراض الدم ويُصبح الجسم غير قادر على إنتاج الهيموغلوبين بشكل طبيعي. وهناك أيضًا مرض الهيموفيليا وهو عبارة عن نزف وراثي يؤدي إلى عدم تجلط الدم بالشكل الصحيح مما يمكن أن يُسبب نزفا تلقائيا.
لكن يبقى هذا القرار غير كاف. فالمطلوب اليوم ضرورة إجراء الفحوص الوراثية، وهي تحاليل شاملة للحمض النووي للفرد بهدف الكشف عن أي تغييرات جينية قد تكون مرتبطة بأمراض وراثية سواء كانت موجودة حالياً أو قد تظهر في المستقبل. وهي غير متوفرة حالياً في الجزائر وباهضة الثمن.