Site icon المزمار الجديد

دعيس

محمد الحاج صالح

كنا نخافه، نختزن الخوف منه في نفوسنا كل يوم، مرآه من بعيد على ظهر حصانه يرعدنا، فندخل البيوت تاركين ساحة القرية وأزقتها خالية إلا من الأطفال الذين يتبعونه عن بعد صارخن “هيه.. هيه ادعس يا دعيس. اضرب يا دعيس.. هيه.. هيه ” وكانت التفاتة غاضبة منه نحو الأطفال تجعلهم ينفرطون مختفين في الأزقة ومداخل البيوت، حتى الكلاب التي لا يسلم منها مار راكب، أو راجل، كانت تنبحه عن بعد غير متجاسرة على الاقتراب منه، فإذا ما رفع يده بخيزرانته مشيراً إليها انهزمت وبصبصت بصوت ذليل كما لو أن الخيزرانة ساطتها على ظهورها.

في الصيف الماضي عندما سرقت بضع نعجات من أغنام “إبراهيم الوكّاد” جمعنا في ساحة القرية التي حولها إلى دار حرب تحت الشمس المحرقة، ومنع عنا الماء، وأخذنا، كل بدوره، الفلقة أولاً، يحشرنا في دولاب السيارة الصغير، فتبرز مؤخراتنا من جهة وترتفع أرجلنا إلى السماء في ابتهال صامت من جهة أخرى، وتنقرف ظهورنا من شدة العطف والانحناء الإجباري ونحن محشورون في فتحة الدولاب الضيقة. ثم تمتلىء القرية بالصراخ والترجّي “أبوس إيدك أنا مالي دخل. دخيل النبي. دخيل الله “ويردد شط الفرات الصرخات بصدى متطاول متتابع، وبعدها يُركضنا على سقف البلور المكسرة والخيزرانة تأكل من جلد أكتافنا والدم ينفجر ينابيع حمراء، وتأتي الثالثة المرعبة المخجلة، إذ يضع في أدبارنا خرطوم المنفاخ أمام الأطفال والنساء اللواتي يغطين عيونهن كي لا ينظرن، ويأمر هو أحد هجانته بضغط المنفاخ صارخاً به “انفخ.. انفخ”، وتنتفخ بطوننا، وتمتلىء أمعاؤنا إلى. حد الانفجار وهو يسخر “حامل بالشهر التاسع يا ابن الكلب.. ها” ونحن نبكي ونترجى “دخيل عرضك أنا مالى دخل. دخيل النبي محمد”. ولما ختم علينا جميعاً بختم المنفاخ ولم يعترف أحد، صرخ “هاتوا النساء” عندها صاح أحمد الخلاّفِ “أنا.. انا ” وراح يهذي بصوت عالٍ متصل “أنا.. أنا”. قال دعيس كأنما أنهى عملاً عادياً “ما تقول من الصبح وتخلصنا.. خذوه “.

وعندما وشي بنا نحن الثلاثة سلمان الراعي، جمع علينا القرية، وانتظر حتى التمَّ الجميع، الرجال، والشيوخ، والأطفال، والنساء، والكلاب، والقطط. قال “هؤلاء الثلاثة يحسبون أنفسهم رجالاً. يقولون عني إني ظالم وإنى لولا خيزرانة الحكومة التي بيدي لما كنت أساوي قرشاً واحداً وإنهم سيفعلون بي ذات يوم ما فعلته بهم. أجلسونا نحن الثلاثة على كراسي خيزران منخوبة القواعد لتتدلى مؤخراتنا عميقاً فيها، وربطوا أيدينا على المساند الخلفية، وجمعوا أرجلنا في رباط محكم أيضاً مع أرجل الكراسي، وأوقفوا على رأس كل واحد منا “هجّانين”، واحد يضغط على الكتفين ليغرزنا وكراسينا في الأرض، وآخر يُمسك رأس الواحد منا بيدين كأنهما مَلزَمتا حديد، ودعيس يتخطر بيننا وبين الناس محدقاً في كل الوجوه عله يلمحُ تعبير تبرّم أو احتجاج ليكمل الحفلة بعدد آخر من الرجال. تقدم منا، وكنت الأول.. أطبق بسبابته وإبهامه الغليظين على جمزة من شواربي ونتف نتفة كأنه ينتر حبلاً معلقاً بثقل، أمتطت شفتي وارتدت مرتطمة بلثتي وأسناني محدثةً صوتاُ كأنه ضربة على جلد دفّ رطب. علّقَ جمزة الشعر بين أصابعه في الهواء ليراها الجميع، ثم بصق عليها ورماها تحت قدمه. حاولت أن أصبر على الإهانة والألم مناجياً نفسي: “يجب ألا أبكي” وعندما أحسست برطوبة الدمع في عيني فتحتهما على وسعهما وأنا أكزُّ على أسناني متمنياً ألا تسقط الدمعة، لكنها سقطت ونفذ الأمر، وتهاطل الدمع بعدها دون محاولة مني لحبسه.. وفعل بمحمود وعلي مثلما فعل بى. قال وهو يبصق على آخر نتفة من شوارب علي “أرأيتم أكباشاً نطّاحة بلا قرون.. لم تروا؟ إذن انظروا إلى هذه الأكباش” بعدها توارينا حتى اندملت جروحنا وتموست أورام شفاهنا ونبتت أشعار شواربنا، فتجولنا في القرية متجنبين النظر في عيون الناس، والناس يتجنبون النظر في وجوهنا. لم يلمح أي منهم إلى ما حدث وهو ماحز في نفوسنا أكثر. كنا نحس بصمتهم مثقلاً بالإشفاق والخزي، متصورين في دواخلنا ما يدور في نفوسهم من استعادة لمشهدنا ونحن مربوطون بالكراسي وشواربنا تنتف ويبصق عليها. تعذبنا أياماً بين صمت الناس وبين نار قلوبنا، فتواعدنا وأقسمنا أيماناً مغلظة على الانتقام منه، وكي لا نتراجع حلقنا شواربنا وحلفنا ألا نعيد تربيتها إلا بعد أن نأخذ بثأرنا، وسرى في القرية نبأ سرّي هامس أننا سنرحل عن القرية أو نثأر، وعندما رأونا مرط الشوارب تيقنوا أنَّ الأمر جَد، فتجنبونا، وراحت عيونهم تهرب بعيداً كلما التقينا بهم.

في يوم ونحن نحمل همنا ووعدنا الثقيل لأنفسنا بالثأر، جاءتنا الفرصة. كنا متوحدين نمشي على شط الفرات، عصينا بأيدينا وخناجرنا مشكوكة في خواصرنا، عندما صدمت عيوننا ثياب وبندقية هجاني بين شجيرات الغرب، نظرنا في عيون بعضنا البعض تلامحت على وجوهنا تعابير خاطفة، وسمعنا إلى يسارنا، هناك، في وسط تيار النهر نخير سباح كأنه نخير فرس مستثارة، ورأيناه، هو.. هو نفسه. وقفنا ننظر إليه وأيدينا اشتدت على عصينا، وبلا شعور اصطففنا واحداً جنب الآخر متحفزين مباعدين ما بين أرجلنا، وبحركة متواقتة نزع كل منا لثامه عن وجهه، وبأيدينا الحرة مسحنا على شواربنا الحليقة كأنها لا تزال نابتة.. حدق هو بنا زمناً طويلاً محركا يديه حركة هينة ليبقي نفسه في مكانه وكي لا يجرفه التيار”. صرخ بصوت عال ليسمعنا فردد الشط والفرات صرخته “هؤلاء أنتم يا تيوساً بلا لحى؟ “. قال علي وهو يرتجف غضباً محاولاً رفع صوته “أخرج إلينا يا دعيس وسنرى أنحن الرجال أم أنت؟”، وبلا جواب سبح هو نحو الشط معاكساً التيار ليظهر لنا قوته. اهتزت العصي بأيدينا والتهبت نخوة القتال في رءوسنا واحتشدت القشعريرة تحت جلودنا. بعد سباحة عنيفة تخلص من تيار الماء السريع ووصل إلى المياه الراكدة، فانفلتت قوته وراح يضرب الماء بحركة سريعة مارقاً كالسهم نحو نقطة لا تبعد عنا سوى خطوات، ثم وقف في المياه الضحلة وخب مخوضاً فيها، بانَ أولاً صدره وظهرت سرته ونحن لا نحول عيوننا عنه، وعندما انكشف عارياً ارتبكت عيوننا وحاصت في محاجرها وقف على الشط يغمر الماء قدميه محدقاً في عيوننا، واثقاً من نفسه، كأنه لم يكن عادياً ولا أعزل، قال وعضلات خده تتراقص: “من هو ابن المرأة اللي أمه ولدته واقفة يمد يده علي.. ردوا.. قولوا” ولما لم نجب تابع:

“لا تحسبوا أن الحكومة وبندقيتها هي دعيس.. دعيس هو دعيس. واحد غيري يتلطى خلف بدلة الحكومة أما أنا فلا..”. غمغم علي: “شف ابن الحرام! يحسب نفسه أبا زيد الهلالي لولا النسر المثبت على عقاله ما ساوى فلساً” وتمتمت أنا من غير أن أرفع نظري عنه: “سنهترىء في السجن إن ضربناه وبقينا هنا.. فلنضربه في وقت واحد ونهرب إلي بلد مجاور ليس فيه مثل قسوة هجانتنا” قال: “اسمعوا.. سأعد إلى العشرة فإذا لم تتنحوا كانَ لي شغل آخر معكم”. عدّ بصوت عالٍ “واحد اثنان ثلاثة.. “ولما أنهى العَد تقدم نحونا بعريه وكانت لحظات حاسمة، كان يلزمنا خطفة يد مرفوعة بالعصا لكننا لم نفعل، وكان كل واحد منا ينتظر قرار الآخر وعصاه المشرعة لكن أيا منا لم يفعل، كأننا تجمدنا، حتى أنفاسنا انحبست في صدورنا. وصل إلينا وعيناه الذئبيتان تلتهمان وجوهنا، وذراعاه متباعدتان عن جسده في تأهب وتحرص، شق ما بيني وبين محمود، دفعنا بيديه، إذ لم يكن ما بيننا يكفيه للمرور، ترنحنا والتفتنا إليه وهو يتجه إلى لباسه، وتلاحظنا بنظرات تقول إن هذا أكبر من إهانة، لكننا لم نبادر، بل رحنا نتابعه وهو يرتدي ثيابه متمهلاً، ويلبس جواربه وحذاءه، ويضع كوفيته على رأسه ويضبط عقاله فوق الكوفية، ويلتمع النسر مشرقاً في أشعة شمس العصر. قال محمود هامساً “فلنضربه قبل أن يمسك بندقيته ” لكننا لم نتحرك. مشى خطوات نحو بندقيته، ورمانا بنظرة جانبية وهو ينحني عليها. صارت البندقية في يده ولم نضربه، فارتعدت أيدينا وكادت عصينا تسقط. رفع البندقية ولقمها وأطلق طلقة في الهواء، فتساقطت عصينا بلا إرادة منا. صرخ “اخلعوا ثيابكم يا ولد الساقطات”، لكننا بقينا متيبسين في خوفنا. لقم البندقية ثانية وعين نحونا “صرخ: اخلعوا ثيابكم. ولم نتحرك. أطلق، فصفرت الرصاصة في أذني ارتعدت أحسب أنني أصبت. رفعت يدي ولمست أذني وقلبتها أمام عيني فلم أر دماً. نظرنا إلى بعضنا مذهولين ورحنا نخلع ثيابنا إلى أن بقينا في السراويل الداخلية الطويلة. صرخ بنا مرة أخرى “اخلعوها” فخلعناها. قال “أمامي إلى المخفر”. ومشينا في صف ذليل نحو المخفر وكل منا يتآكله الندم لأننا لم نضربه.

طبيب سوري مقيم في النرويج

Exit mobile version