أدب

دون كيخوته.. في ذاكرة الإبداع العربي

أحمد سليم عوض

احتلت رواية دون كيخوته منذ بدايات القرن العشرين مكانة مرموقة في النشاط الأدبي والنقدي العالمي. وصفها مترجمها الأهم إلى العربية، د. عبد الرحمن بدوي، قائلاً: “دون كيخوته رمز النبالة الساعية إلى خير الإنسانية، ولكن وسائلها العاجزة لا تستطيع تحقيق أمانيها. هي رمز للمثل الأعلى الإنساني الذي دائماً يصطدم بالواقع الكالح فينتهي بالإخفاق”.

مؤلفها هو ميغيل دي ثربانتس، الأديب الإسباني، وتُعد من روائع الأدب العالمي. تم نشرها على جزئين بين عامي 1605 و1615. اشتهرت الرواية بين العرب بالعديد من الأسماء، مثل: دون كيشوت، دون كيخوته، ضون كيخوتي، دون كيخوط، ودون كيخوطي. تُعتبر واحدة من أفضل الأعمال الروائية المكتوبة، واعتبرها النقاد بمثابة أول رواية أوروبية حديثة، وواحدة من أعظم الأعمال في الأدب العالمي. تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات الأجنبية.

حمل الجزء الأول من الرواية اسم العبقري النبيل دون كيخوتي دي لامانتشا، أما الجزء الثاني فجاء بعنوان العبقري الفارس دون كيخوتي دي لامانتشا.

قدمت القصة الصراع الدائم بين الخير والشر، الحياة والموت، الواقعية والمثالية. بيّنت واقعاً عملياً نفعياً يفرض وجوده على البشر.

كان قصد دون كيشوت الأصلي نشر الحق والعدل والقيم النبيلة، لكنه سلك طريق الأوهام، وانتهى عمله إلى لا شيء، بل تحولت الأمور إلى الأسوأ. على النقيض، كان تابعه سانشو بانزا يمثل الواقعية التي تطلب الفائدة الملموسة والنفع القريب.

تُبرز الرواية كيف يمكن للإنسان أن يصارع أوهاماً وخرافات يؤمن بها، وفي النهاية يخسر أشياء كثيرة، منها حياته.

لا تبعد رواية دون كيخوته عن عالمنا العربي، بل تحاذيه وتتقاطع معه مراراً. يكفي أن ثربانتس، مؤلف الرواية، أشار في مقدمتها إلى أن مغامرات دون كيخوته كُتبت أصلاً باللغة العربية على يد كاتب عربي يُدعى سيدي حامد بن إنجيلين، وأن الرواية هي ترجمة حرفية قريبة من النص العربي. جاء هذا في إشارة ذكرها د. عبد الرحمن بدوي في ترجمته للرواية.

عرف المبدع والقارئ العربي الرواية من خلال حركة الترجمة الواسعة التي شهدها الأدب العربي، حيث نُقلت العديد من الأعمال الأوروبية إلى العربية، وكانت دون كيخوته من بينها. حققت الرواية شهرة واسعة منذ ظهورها، لكنها لم تُترجم كاملة إلى العربية حتى منتصف القرن العشرين.

في عام 1957، تم اختيار ونشر مجموعة أدبية في مصر بعنوان من الأدب العالمي. ظهرت أول ترجمة عربية لهذه الرواية بعنوان السيد العبقري دون كيخوته دي لامانشا. احتوت الترجمة على النصف الأول فقط من الرواية، وقدمها عالم الأندلسيات د. عبد العزيز الإهواني، وراجعها وقدم لها د. حسين مؤنس.

في عام 1965، ظهرت لأول مرة في مصر ترجمة كاملة للرواية، بفضل عمل العالم د. عبد الرحمن بدوي. صاحب الترجمة مقدمة علمية غنية بالمعلومات عن ثربانتس مؤلف الرواية، وعن الرواية نفسها، والظروف التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بها. جاءت الترجمة عملاً رائعاً مكتوباً بلغة عربية مشرقة وأنيقة، عكست تمكّن بدوي من اللغة الإسبانية وإدراكه العميق لخيال الرواية الخلاق وجمال صورها.

تميزت ترجمة بدوي بأنها تفوقت في لغتها ومقدمتها الفنية على العديد من الطبعات الإسبانية ذات المقدمات الوافية.

في عام 2002، جاءت ترجمة د. سليمان العطار مصحوبة بمقدمة رائعة تناولت ثقافة ثربانتس وعمق شخصيته. أما الترجمة الأخيرة بالعربية فكانت للأديب السوري د. رفعت عطفة، وظهرت بلغة جادة وعميقة، عكست وعي وخلفيات المؤلف العبقري من ناحية، وشخصية البطل الفارس الخيالي من ناحية أخرى.

لا بد من الإشارة إلى تجربة الكتاب اللبنانيين د. نجيب أبو ملحم ود. موسى عبود، اللذين نشرا عام 1947 كتاباً بعنوان ثربانتس أمير الأدب الإسباني.

وقد تم توظيف دون كيخوته في الإبداع العربي المعاصر بطريقة بديعة ومؤثرة، سواء في فن النثر القصصي أو الشعر، حيث نجح الشعراء والكتاب في إبراز صفة البطولة الكاملة في هذا الفارس الإسباني المقدام. وجدنا التوظيف الرمزي في قصتين عربيتين هما: قصة دون كيشوت للأديب السوري هاني الراهب، وقصة أحلام الفارس الحزين دون كيشوت للأديب العراقي جليل القيسي.

أما في الشعر العربي المعاصر، فإن الإشارات إلى رمز المثالية في شخصية دون كيخوته كثيرة ومتعددة، حيث يظهر في أبيات الشاعر السوداني محمد الفيتوري، والشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة، وأحمد سويلم، وأحمد هيكل، ونجيب سرور. كما يظهر في أبيات نزار قباني والشاعر العراقي بدر شاكر السياب، وأرشد توفيق، وخليل إبراهيم. نلتقي أيضًا بـدون كيخوته في شعر محمود درويش النثري وأبياته الشعرية بالطبع.

نبدأ بالشاعر السوداني محمد الفيتوري، في ديوان اذكريني يا إفريقيا في قصيدته بعنوان (دون كيشوت الثاني)، حيث نجده قد نجح في توظيف رمز دون كيخوته توظيفًا يتلاءم مع حالته النفسية والمزاجية، مستخدمًا الشخصية الكيخوتية استخدامًا سياسيًا رمزيًا. حيث يقول:

دون كيشوت الثاني

صَدَنتْ عيناك..

وغَطّتْ أعشاب الأرض السوداء خطاك.

فلتدفن رأسك في الطين

يا دون كيشوت المسكين.

الحلبة فارغة العينين،

بلا كفّين،

بلا جمهور يزرع ملء جوانبها الضوضاء.

أما الشاعر إبراهيم أبو سنة، فقد اتخذ من شخصية دون كيخوته رمزاً للتعبير عن المشاعر الفياضة. حيث يقول في قصيدة دون كيشوت على فراش الموت:

من نصف قرن أو يزيد

وها أنا على فراش الموت،

مُكبل بالجرح والحديد،

أستعطف القضاة والشهود،

مستوحش من دولة البرابرة.

ويضيف:

حلمتُ بالحمام

يرتاح آمنًا على أكتافنا،

ويبتني أعشاشه – إن شاء – في ثيابنا.

لكنني رجعتُ بالجراح،

بالقهقهات الساحرة،

بسيفي المكسور في التراب،

وأدمع غزيرة في أعين الجواد.

تركتُ “قرطبة”،

مدينة لا تعرف السعادة،

مدينة أميرها الكذب.

كما استلهم الرسامون والنحاتون هذه الشخصية في أعمالهم الفنية، منها: لوحة الفنان وليد الآغا بعنوان (أحبك يا دون كيخوتي)، ولوحة الفنان منقذ سعيد (كلنا دون كيخوته)، وأخرى للفنانة عتاب حريبي بعنوان (المرأة عند دون كيخوته)، وأخيرًا لوحة (لامنتشا) منطقة دون كيخوته للفنان عصام درويش. حتى أن الطريق الذي سلكه في رحلته أصبح رمزًا سياحيًا للعديد من عشاقه.

هي حقاً رواية عجيبة. ولعل إحساساً داخلياً يجعلنا نشعر بالتماهي مع هذا الفارس المقدام، من حيث إننا نرفض أن نقبل الواقع كما هو، ونحاول جاهدين تغيير العالم حتى يصبح عالمنا أكثر تطابقاً مع أحلامنا وأفكارنا ومبادئنا. تلك هي الشجاعة العظيمة التي ينفخها فينا دون كيخوته، شجاعة أن نكون أحراراً قبل أي شيء آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى