سعد الرميحي
من صور الذكريات الجميلة التي مرت بخاطري، هذه الصورة والتي أخذت في أغسطس ١٩٨٣م في مدينة ملقا الإسبانية، حيث أقام نادينا الغرافة أول معسكر خارجي للفريق الأول مطعّم ببعض لاعبي فريق الشباب.
كنا أول فريق نادٍ قطري يعسكر في أوربا، كنت وقتها رئيساً للنادي، ومعي مجموعة من خيرة شباب النادي، ومن ضمنهم أخي العزيز سيف النعيمي، رحمه الله، والذي كان مديراً للفريق الأول، ولأهمية الصحافة والإعلام رافقنا، بقرار من مجلس الإدارة، الزميل الأستاذ جلاء جاب الله، مدير تحرير صحيفة الدوري القطرية ليتولى تغطية نشاط الفريق ومبارياته خلال المعسكر.
كانت فكرة المعسكرات تقتصر على المنتخبات بكل فئاتها، وقد يكون الاتحاد القطري لكرة القدم أول اتحاد عربي يقيم معسكراً سنوياً لحكام المباريات.
ولكن لم يحدث أن سافر فريق يمثل نادياً لأوربا ليعسكر هناك، لذا كانت تجربة نادي الغرافة ثرية في فكرتها ومضمونها، رغم أن الفريق وقتها قد هبط للدرجة الثانية، بعد أن قضى موسم ٨٢ / ١٩٨٣م ضمن أندية الدرجة الأولى.
كما أذكر أن نجمي الفريق عادل خميس ومانع سعود التحقا بالمعسكر من المغرب، حيث كانا ضمن منتخب قطر في بطولة العرب للشباب على ما أذكر، وطلبت من الزميل مصور الصقر الفنان “مصطفى بدري” أن يرتب لهما رحلة من الدار البيضاء لملقا، وهو ما تم بالفعل ليقضي معنا “مصطفى” بعض الأيام، ويلتقط بعدسته الجميلة هذه الصورة، والتي تجمعني مع لاعب النادي المحترف باولو ومساعد المدرب البرازيليين، كان المدرب البرازيلي الشهير “سيلاز” هو مدرب الفريق الأول، علماً بأن هذا المدرب تولى تدريب فريق النادي العربي قبلها.
سعد الرميحي إلى جانب لاعب نادي الغرافة المحترف باولو في معسكر النادي في إسبانيا 1983 ومساعد المدرب البرازيليين
رحلة ذكريات جميلة، ولكن ما يؤسف فيها أن العلاقة مع مثل هؤلاء اللاعبين قد انقطعت من سفرهم، وهذا ما لا كنت أتمناه، فالعلاقة الإنسانية يجب أن تبقى مع مثل هؤلاء اللاعبين، والذي صالوا وجالوا في الملاعب القطرية لسنوات.
كنت أتساءل مع نفسي أحياناً وأقول: ترى ماذا يقول أولئك الذين قضوا سنوات في قطر كمدربين أو لاعبين، وهم يشاهدون ذلك البلد الذي عملوا فيه زماناً وهو ينظم بطولة كأس العالم، ويشاهدون هذه الملاعب التحفة الجميلة، والتي كانت ملتقى كل نجوم العالم في مونديال ٢٠٢٢ م والذي كان، بشهادة الجميع، أفضل مونديال في التاريخ!!
***
زرت لندن لأول مرة في حياتي عام ١٩٧٣م، أي قبل إحدى وخمسين سنة، وأذكر ذلك التاريخ جيداً، فقد كان يوم ١٩ أغسطس ١٩٧٣م ولكن لا أذكر هل صادف ذلك اليوم يوم أحد أم لا، أقمت في فندق قريب من شارع أكسفورد وقتها، ثم نزلت أتمشى بعد وصولي، ومررت بناس وهم يتناقشون وبصوت عالٍ بالقرب من حديقة كبيرة، وهالني ما سمعته من نقاش حاد وقوي، رغم أنني لم أكن أتقن الحديث باللغة الإنجليزية وقتها سوى بكلمات قليلة “تمشي الحال” كما نقول بطريقتنا العربية.
بعدها عرفت بأن هذا النقاش يكون متاحاً فقط يوم الأحد من كل أسبوع، ويسمى “هايد بارك سبيش كورنر”، أي ركن النقاش المفتوح في حديقة الهايد بارك الشهيرة في لندن، وهو يُعدّ أشهر مكان مفتوح في بريطانيا لتبادل وجهات النظر بكل حرية.
ومن يومها وأنا أحرص كلما زرت لندن لا بد لي أن أحضر واستمع لهذه النقاشات التي تدور بين الناس.
تروي كتب التاريخ بأن هذه الظاهرة بدأت عام ١٨٥٥م، وقد شهد الركن أسماء قادة ومفكرين تاريخيين مرّوا على هذا المكان، ولعلّ أشهرهم المفكر الشيوعي كارل ماركس صاحب كتاب “رأس المال”، و ونستون تشرشل الذي أصبح رئيساً للوزراء في إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الركن تستطيع أن تعرف ما يدور في العالم، وبالذات العالم العربي من أحداث وخلافات ومشاكل بين الدول.
كان في الماضي يغلب الصراع العربي الإسرائيلي على كل النقاشات، وفي الثمانينات كان الصراع بين العراق وإيران يغلب على هذه الحوارات، بل وصل الأمر في أحد الأيام إلى صدام عنيف بين المتحدثين، تطلّب تدخل قوات الأمن لفض النزاع، وهذا ما يُخالف سياسة هذا المكان، فالنقاش يجب أن يكون باللسان، ولا مانع أن يتحول النقاش إلى جحيم، ولكن شفوياً فقط، ثم غلب في مطلع التسعينيات أحداث الغزو العراقي للكويت على مجمل النقاشات.
وهكذا تمضي وتيرة الحوارات، وفي مختلف القضايا عربياً وعالمياً سياسياً ودينياً، وفي شتى المواضيع.
وفي كل مرة يخالجني سؤال:
يا ترى ما هي الفائدة من مثل هذه النقاشات؟ هل هي مقنعة؟ أشك في ذلك!!
إنه مجرد نوع من التنفيس ليس إلا، ولكنها لندن، فيها ما يثير العجب.
*والصورة أخذت لي يوم أمس، وأنا أقف في ساحة “ركن الخطباء في الهايد بارك كورنر”.
***
بدعوة كريمة من الابن العزيز “محمد بن إبراهيم التميمي”، قضيت ليلة ١٣ يوليو ٢٠٢٤م ، أمسية ثقافية جميلة في مجلسه، بصحبة الأخيار من زملائه وأصدقائه، حيث كان لي الشرف بأن أتحدث معهم عن” تاريخ الصحافة القطرية “، والدور الكبير الذي لعبه الرجال الأوائل من أبناء قطر في نحت الصخر ودخول عالم الصحافة في وقت لم تكن هناك دلائل على نجاح مثل هذه المشاريع الخاصة، وأخص بالذكر الوالد الغالي “عبدالله بن حسين النعمة”، الذي كان أول من غرس بذرة الصحافة الخاصة في قطر عندما أطلق يوم ٥ فبراير ١٩٧٠م العدد الأول من مجلته “العروبة” كأول مجلة خاصة تصدر هنا، فرعاها الرجل بكل جهد وعطاء، وقدم عصارة جهده من أجل أن تكون “العروبة” حاضنة لكل قلم قطري يطل على القراء عبر صفحاتها، ولم يكتف الرجل بذلك، بل أطلق يوم ٦ مارس ١٩٧٢م العدد الأول من صحيفة “العرب” كأول صحيفة قطرية يومية، بدأت أسبوعية بحجم التابلويد، ثم تحولت عام ١٩٧٤م لتصبح صحيفة يومية بالحجم المألوف “الستاندرد”، ثم عَرّجتُ للحديث عن الدور الكبير الذي لعبه الوالد “عبدالله الحسيني” عندما أصدر يوم ١٩ يوليو ١٩٧٤ م مجلته الجميلة “العهد” التي يشهد لها التاريخ الصحفي في قطر، بأنها كانت حاضنة للعديد من الأقلام الوطنية للجنسين، وكانت صفحاتها تنشر ما يحلوا لهم أن يكتبوه بكل أريحية وتقدير.
وتوقفت أمام الجهد الكبير والعطاء المتدفق الذي قدمه عميد الصحافة القطرية الأستاذ “ناصر بن محمد العثمان”، عندما أنيطت له مسؤولية رئاسة تحرير جريدة الراية منذ صدورها في ١٠ مايو ١٩٧٩م كثاني صحيفة يومية تصدر في قطر، والدور الذي لعبه “بو محمد” في سبيل الارتقاء بالعمل الصحفي للأفضل ثم للحديث عن صحيفة “الخليج اليوم”، والتي تحولت لتصبح صحيفة “الشرق” باقتراح مني عندما توليت رئاسة تحريرها، وهي قصة تستحق أن تروى يوماً ما، ثم عن إصدار الصحيفة اليومية الرابعة في قطر وهي “الوطن” والتي صدرت يوم ٣ سبتمبر ١٩٩٦م وتولى رئاسة تحريرها زميلي العزيز الأستاذ “أحمد علي العبدالله” والذي تمكن من أن يجعلها في مصاف الصدارة لجودة ما يطرح فيها، ناهيك عن الأقلام الوطنية والعربية التي تألقت عبر صفحاتها، وتحدثت بعدها عن الصحف الثلاث الناطقة باللغة الإنجليزية، وعن المطبوعات الحكومية التي أصدرتها حكومة قطر في السنوات الماضية كمجلات عالمية مثل: الدوحة، الأمة، والصقر وما تركته هذه المطبوعات من أثر كبير في مسيرة الإعلام العربي ما زال صداه يُذكر إلى اليوم، وأسعدتني مشاركة الشباب الحضور ونقاشاتهم الجميلة.