Site icon المزمار الجديد

رشيد.. مدينة المليون نخلة وحاضنة التاريخ

*ملتقى الشرق والغرب وجوهرة التراث المصري

*حكايات التاريخ والمعمار على ضفاف النيل

*معالم أثرية وسحر العمارة العثمانية

أحمد سليم عوض

على أطراف الدلتا المصرية، التي تزدان بالنضارة والحيوية، تقع مدينة التاريخ “رشيد”، التابعة لمحافظة البحيرة، إحدى محافظات جمهورية مصر العربية. إنها جوهرة خالدة عبر الزمن، حيث يلتقي النهر بالبحر، والشرق بالغرب.

تستقبلك المدينة بأشجار النخيل الباسقة، وكأنها تخترق عناء السماء لتُطلق عليها بحق لقب “مدينة المليون نخلة”.

تمتاز رشيد بموقعها المميز، الذي جعلها شاهدة على جميع الفتوحات التي دخلت مصر، ولأهلها تاريخ مشرّف على مر العصور.

يعود اسمها إلى الكلمة المصرية القديمة “رخيت”، والتي أصبحت “رشيت” في العصر القبطي.

عندما زرت المدينة، تجولت في شوارعها وتأملت مساجدها وبيوتها المزخرفة بجمال وإبداع. أبحرت في نيلها الذي زادها بهاءً ورونقاً. إنها واحدة من أبرز مدن مصر التاريخية، إذ تجمع بين عبق التاريخ وعمق الحضارة الإسلامية. تُعرف رشيد بموقعها الاستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط ونهر النيل، مما جعلها مركزاً حيوياً عبر العصور، خاصة في العصر العثماني.

تضم المدينة معالم معمارية وأثرية فريدة، مثل القلاع والمساجد والمنازل الإسلامية المزخرفة، مما يجعلها متحفاً مفتوحاً يعكس التراث المصري.

ما أجمل هذا المشهد العظيم الذي رأته عيناي في بداية زيارتي للمدينة، حيث تتجلى عظمة الله عز وجل وآياته الخالدة عند ملتقى نهر النيل بالبحر المتوسط في رشيد، مصداقًا لقوله تعالى:

﴿وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذب فُرات وَهَٰذا مِلۡحٌ أُجَاج وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخاً وَحِجۡراً مَّحۡجُوراً﴾ [الفرقان: 53].

في هذا المشهد، تتحقق القوانين الفيزيائية التي تحكم حركة السوائل، مثل اختلاف الكثافة، والملوحة، ودرجات الحرارة. هذه القوانين تضمن عدم طغيان أحد المائين على الآخر رغم التقائهما المباشر. سبحان الله الذي وصف لنا هذا المشهد العلمي الدقيق قبل 14 قرناً.

كان هدفي الأساسي خلال زيارتي هو البحث عن موقع اكتشاف حجر رشيد، خاصة مع مرور 225 عاماً على اكتشافه يوم 15 يوليو عام 1799. الحجر اكتُشف داخل قلعة السلطان المملوكي الأشرف أبو النصر قايتباي، التي تقع على الشاطئ الغربي لفرع رشيد شمال المدينة بحوالي 6 كيلومترات.

بناها السلطان الأشرف قايتباي عام 886 هـ (1482م)، وهي نموذج مصغر لقلعة قايتباي بالإسكندرية.

بُنيت القلعة على شاطئ النيل لصد الهجمات بعد مرورها من البحر الأبيض المتوسط وصولًا إلى القاهرة.

داخل هذه القلعة، تم العثور على حجر رشيد الذي ساهم في فك رموز الحضارة المصرية القديمة أثناء الحملة الفرنسية.

تجدر الإشارة إلى أن بعض أحجار القلعة جلبت من معابد مصرية قديمة، ما أضفى عليها طابعاً فريداً يجمع بين الأصالة والحداثة.

حيث تم الكشف عنه في جدار قديم داخل القلعة أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر، وهو محفوظ الآن بالمتحف البريطاني بلندن. يبلغ طول الحجر 112 سم، وعرضه 75 سم، وسمكه 28 سم، ووزنه 762 كجم. الحجر مصنوع من البازلت الأسود، ومكتوب بثلاث لغات من أعلى إلى أسفل: الهيروغليفية، والديموطيقية، واليونانية. يعود تاريخ الحجر إلى عام 196 ق.م، في عهد الملك بطليموس الخامس، الذي حكم مصر بين عامي 203 و181 ق.م. وقد نجح العالم الفرنسي شامبليون في فك رموزه وكشف أسرار الحضارة المصرية القديمة، ليصبح الحجر نافذة مضيئة أطل منها العالم بأسره على سحر لغة مصر القديمة.

ومن أجمل متاحفها التي استمتعت بزيارتها، متحف رشيد الوطني، الذي يخلد تاريخ المدينة وتراثها. يقع المتحف في “منزل عرب كلي حسين بك”، الذي كان محافظاً للمدينة خلال العصر العثماني. افتتح المنزل كمتحف حربي في عام 1959م خلال زيارة الرئيس جمال عبد الناصر لرشيد. يضم المتحف مقتنيات ونماذج تبرز كفاح شعب رشيد والمعارك التي خاضها ضد المستعمر الفرنسي والإنجليزي، وتشمل نماذج وصوراً للمعارك، والحياة الأسرية في رشيد، والصناعات الحرفية الشعبية، إلى جانب المخطوطات وأدوات الحياة اليومية.

وفي زيارتك للمدينة، تجد متحفًا مفتوحاً للعمارة الإسلامية، فهي ثاني أكبر المدن بعد القاهرة من حيث عدد الآثار الإسلامية، وجميعها يعود إلى العصر العثماني. يتمثل هذا التراث في روعة الفن الإسلامي الظاهر في المنشآت المدنية والدينية. من أبرز المنشآت المدنية المنازل الأثرية، التي تعود إلى القرن 12 هـ / 18 م، ولم يتبقَّ منها سوى 22 منزلاً فقط، جميعها شُيدت بالطوب المنجور الأسود والأحمر. أما المنشآت الدينية الأثرية، فتشمل:

مسجد زغلول: أُنشئ عام 985 هـ، ومنه انطلقت إشارة البدء للمقاومة الشعبية ضد حملة فريزر، التي انتقمت بتحطيم إحدى مآذنه.

مسجد أبو مندور: يقع على شبه جزيرة تُسمى “تل أبو مندور”، وهي ربوة عالية على نيل رشيد. يُعرف المسجد باسم العارف بالله أبو النضر، وهو من كربلاء ومن نسل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

مسجد العباسي: أنشأه محمد بك طبوزاده عام 1224 هـ، ويقع على شاطئ النيل جنوب رشيد. بُني المسجد بالطوب المزركش، وله مئذنة وقبة رائعة الجمال.

مسجد المحلي: ثاني أكبر مساجد رشيد بعد مسجد زغلول. يتميز ضريحه بكسوته بالقيشاني الملوّن والخشب المخروط بأشكال متعددة، ويقوم على 99 عموداً مختلفة الأشكال، وله 6 أبواب. يضم المسجد مكتبة زاخرة بالكتب الإسلامية والمخطوطات، وينسب إلى السيد علي المحلي، الذي توفي برشيد ودُفن بها عام 90 هـ.

طاحونة أبو شاهين: شُيدت في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي. بناها عثمان أغا الطوبجي، وخصصت لطحن الغلال، وكانت تُدار بواسطة الدواب. الطاحونة مزدوجة ولها تروس خشبية.

بوابة أبي الريش: وغيرها من الآثار التي تجعل من رشيد متحفاً مفتوحاً.

في أغسطس 2018م، أعلن قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بوزارة الآثار المصرية أن مدينة رشيد موضوعة على القائمة التمهيدية لمنظمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 2003م. تعمل الوزارة على إعداد ملف خاص بالمدينة بالتوازي مع ترميم آثارها؛ لإدراجها ضمن القائمة الأساسية للمنظمة.

إضافة إلى تراثها المعماري والتاريخي، تتميز المدينة بظهير أخضر يمتد غرباً إلى مشارف مدينة إدكو. هذه المساحات الكبيرة مزروعة بأشجار النخيل، مما منحها لقب “مدينة المليون نخلة”. إلى جانب النخيل، تنتشر زراعات الفواكه والموالح، والأرز، والقمح في مساحات شاسعة تمتد جنوباً موازية لنهر النيل حتى قرية إدفينا الشهيرة.

كاتب مصري

Exit mobile version