Site icon المزمار الجديد

زيّ المرأة التقليدي في الرّقة .. هوية تنسجها الأقمشة

عبد الكريم البليخ

يُعدّ اللباس التقليدي للمرأة في الرّقة تجسيداً عميقاً لهوية ثقافية متوارثة، تمتد جذورها من الأجداد إلى الآباء فالأبناء. إنه ليس مجرد زيّ يُرتدى، بل مرآة تحاكي البيئة، وتنطق بعادات العرب وتقاليدهم، وتُجسد حشمة المرأة العربية، وارتباطها العميق بالقيم والأصالة.

في سهول مدينة الرّقة المنبسطة، نشأ هذا اللباس متكئاً على الجغرافيا والأخلاق والدين، فانعكس ذلك على تصميمه ومادته وألوانه. ورغم تعاقب الأجيال وتبدّل الأزمنة، حافظت النساء الكبيرات في السنّ على هذا الإرث الغني، ورأين فيه امتداداً لروح الماضي وعبق الأرض، حتى وإن طغت على الحاضر مظاهر الحداثة وتبدّل الذوق العام.

لم يكن اللباس مجرد غطاء للجسد، بل كان طقساً يُحتفى به في الحياة اليومية والمناسبات. في الأعراس، تزدهي الفتيات بلباس “الزري”، وهو قماش تقليدي لامع بألوان زاهية، أما في الأحزان فكان السواد سيد الموقف، حيث ترتدي المرأة لباساً أسود حداداً، وقد تقسم أن لا تخلعه ما دام في قلبها غصة على فقيد عزيز.

فالمرأة ترتدي أولاً “الكصيرة”، وهي تنورة داخلية تُفصّل من قماش الكودري، وفوقها “الردان” أو “الشلاليح”، بثوب ذي أكمام طويلة تُشد إلى الخلف، مصنوع من الحرير أو الدانتيل، وكان يُجلب قديماً من مدينة حلب عبر التجّار.

أما “الصاية”، فهي أشبه برداء خارجي مفتوح من الأمام دون أزرار، تُصنع من قماش الكودري ولها جيبان عميقان. ويأتي “الزبون” ليكون أغنى وأفخم، يُرتدى في الشتاء، يُفصّل من المخمل الثقيل، ويُطرّز من الخارج بألوان جذابة، وكان يُطلب من الخليج لما له من جودة وأناقة.

ويُغطّى الرأس بـ”الهباري”، وهي منديل مربع من الحرير، كانت تُجلب من العراق وتُعرف بـ”هباري عراقية”، فيما يُضاف إليها “الملفع”، وشاح طويل يُلفّ حول العُصبة أو الرقبة.

لم يكن الزيّ فقط لباساً، بل كان دليلاً على مكانة المرأة، ومستواها المعيشي. فالمرأة الغنية ترتدي “الجوخ”، وهو من أفخر الأقمشة، أما الفقيرة فتكتفي بـ”البرلول” أو “الليكرا”. وبالإضافة إلى الأقمشة، تزيّن النساء أيديهن وأعناقهن بالذهب والفضة، لا لمجرد الزينة، بل لِما يعكسه ذلك من مكانة اجتماعية واحترام في المجتمع.

يتميّز هذا اللباس بتعدّد طبقاته، ما يمنحه الهيبة، ويحفظ للمرأة حشمتها، دون أن ينتقص من أنوثتها أو رقتها، بل يزيدها سحرًا ورقّة. كما أنّ تعدد طبقاته يمنح حماية من تغيرات الطقس، فيقي من برد الشتاء وحر الصيف، ما يجعله لباساً عملياً وجمالياً في آنٍ واحد.

ورغم اجتياح الحداثة لعالم الأزياء، وبروز الموضة العالمية كبديل عصري، لا تزال المرأة الرقيّة تحتفظ بعلاقتها الوجدانية مع زيّها التراثي. قد أدخلت عليه بعض الإضافات المعاصرة من حيث الأقمشة والتطريز، لكن شكله وهيبته ما زالا محافظين على أصالته. بل إن كثيراً من الفتيات ما زلن يرتدينه في الأعراس، مفضّلات إيّاه على ثوب العرس الحديث، وكأنهن يُعدن كتابة قصة من تراث الجدّات، بحلّة أكثر حداثة.

هذا اللباس، في جوهره، أكثر من قطعة قماش. إنه جزء من الهوية الثقافية التي حاولت الحداثة الرأسمالية طمسها، ضمن مساعٍ حثيثة لسلخ الشعوب عن إرثها وتاريخها، عبر أدوات الغزو الثقافي التي تسللت من المسلسلات والبرامج والمجلات، لتروّج لفكرة أن المرأة المحجّبة أو صاحبة اللباس التقليدي إنما هي متخلّفة عن ركب التقدّم.

لكن رغم كل ذلك، ظلّ زيّ المرأة الرقيّة صامداً. فكل قطعة فيه تحكي حكاية، وكل طيّة تروي ذاكرة، وكل تطريز فيه يخيط رابطاً متيناً بين الحاضر والماضي.

Exit mobile version